ابتهال بليبل
يحدّد الناقد الحداثي "درو دانييل" –عند تعرضه للانتحار بسبب الحب في السرديات- مهمة الموت الطوعي في الأدب بأنها ليست دائماً مسألة مأساة، بل قد تكون مهمة مناسبة للمتعة والنشوة. ويُظهر دانييل أن احتضان كليوباترا للأفعى القاتلة في مسرحية شكسبير، قد لا تعني أن الموت خطيئة أو مرض، بل قد يكون هدية بطولية أو تحرراً جنسياً، أو اندماجاً غرامياً، أو حتى إنقاذاً سياسياً للذات. هو إذن فعل آخر غير فعل الموت!.
فالانتحار على الورقة، الانتحار المروي، المنقول قد لا يكون فعلا تدميرياً كارثيا، لأنه هنا داخل نسيج سرد تعمل به لغة الإشارة والانزياح والرمز، ولا علاقة له بالواقع الحرفي.
وفي إطار استكشاف العلاقة بين الأدب والانتحار، فالأمر لا يخصّ مسرحية شكسبير وحدها. فحالات الانتحار الروحي الفعلي في أكثر أعمال فيودور دوستويفسكي تعود إلى الضيق الاجتماعي الأوسع نطاقاً نتيجة اليأس. بل إن قصة بعنوان "مأساة باتمان" أو "شبح الشاب باتمان" تعد الأكثر شهرة على نطاق واسع للانتحار في إنجلترا الحديثة، وفقا لكتاب "مايكل ماكدونالد وتيرينس ر. مورفي، النفوس التي لا تنام - عام 1990".
وتسلط "مأساة باتمان" الضوء على انتحار باتمان، وتظهره وكأنه تحت عدسة مكبرة مبينة الدافع المحرك لانتحاره بعد أن تنكرت محبوبته لوعودها تجاهه، وجحودها له بعد الزواج بأرمل ثري الأمر الذي تسبب بشنق نفسه في يوم زفافها. وقد تم تصوير العروس على أنها مسؤولة عن دفع حبيبها السابق إلى الانتحار، ومن ثمّ فهي تستحق مصيرها. إذ تحولت حياتها إلى كابوس مخيف بسبب ما تراه وتسمعه عن ظهور شبح باتمان، حتى أنها في الليلة نفسها التي أنجبت فيها، اختطفها الشبح ولم يسمع عنها أحد بعد ذلك.
وهذا النوع من السرديات تتسبب في جدل كبير عن أثر الفاعل المعرفي في الآخر المتلقي، فالقراءة فعل معرفي بريء، وكونها تنقل لنا مشاعر متطرفة عن الحياة، ومن ثمّ تحرضنا على الانتحار، يخرجها من حيزها الأبيض إلى آخر حيز لا لون له.
ولو توخينا الدقة، فإن استعمال مصطلح "الانتحار بسبب الحب" هو للإشارة إلى حالات انتحر فيها أحد الشريكين الرومانسيين أو كلاهما أثناء علاقتهما، ويتعلق الأمر بفقدان الذات أو تشوه الوجود، كما وأكد الكاتب والمهتم بالفلسفة وكر بيرسي بأن الثقافة في القرن العشرين هي "انتحارية" في كل من سلوكها الاجتماعي والسياسي والعسكري.
فالانتحار هو نتيجة واضحة لمفهوم الألم النفسي، الذي هو شعور بغيض أو معاناة تنشأ من أصل نفسي وليس جسديا، كما قدمه العالم النفسي والمتخصص في السلوك الانتحاري إدوين شنيدمان وأنه عذاب ذهني إلى حدّ لا يطاق، ممّا يؤدي في النهاية إلى الشعور بيأس لا يمكن تخفيفه إلاّ من خلال الموت.
هو إذن حل، ولكن متى عندما تنفد الحلول كلها، وهذا طرح خطير لأن الحلول كلها يجب أن تكون حلول حياة لا حلول موت.
والانتحار في أحد أوجهه الكثيرة هو تابع لفكرة التحكم بهدف الخلاص أو باختيار النهاية، إلاّ أن هذا التحكم لا تمتلكه الذات، لأنها بحسب أنطولوجية الفيلسوف مارتن هايدغر هي التي تتملكه. فمصير الأبطال أو الشخصيات التي تختار الانتحار في السرديات رهين نزعة يصبح فيها الوجود قاسياً.
وهذه النزعة بالطبع لها سياقها التاريخي المرتبط بسياسات الوعي، فعبر عصور مختلفة كان العديد من أبطال القصص والروايات تأثيرات كبيرة على تركيبة المجتمع من حيث انسياق القراء إلى تقليد تلك الشخصيات والأبطال أو التمثل بهم وأتباع أفكارهم. ولم تتردد السلطة في محاولة تطهير مجتمعها من هذه الكتابات أو الروايات ومحاربة أصحابها، بل حتى نفيهم. لأن هذه السرديات على الرغم من بساطتها أسهمت في بناء تفكير القراء، بوصفها تعكس وتشكل في الوقت نفسه اتجاهاتهم الاجتماعية وفلسفتهم.
يقول د. محمد عبد الحليم غنيم في ترجمة مقال لإد سيمون عن "الذعر الأخلاقي وقوة الكتب" إنه وخلال أواخر القرن التاسع عشر، كانت الروايات المعروفة باسم "بيني دريدفل"، المطبوعة على ورق أصفر رخيص، تُستعمل في كثير من الأحيان كأدلة في محاكمات القتل. فقد وُجّهت أصابع الاتهام إلى رواية مثل "سر قلعة كوسي". كما اتُهمت رواية "آلام فارتر" ليوهان غوته أيضاً بالتحريض على الانتحار.
ويستعير التأمل في الانتحار السردي مسلكاً آخر، وتظهر فيه الاختلافات بين "الذكر والأنثى" مرئية بوضوح. فعلى الرغم من أن تمثيل الانتحار أمر شائع في الأدب، ويتردد صدى ثيمته في أعمال مثل "حذار من الشفقة" لستيفان زفايج، و"آنا كارنينا" تولستوى، و"فيرونيكا تقرر أن تموت" لباولو كويلو. إلا أن دراسات قليلة تناولت صراحة معنى الانتحار في أعمال الكاتبات من النساء.
وتصنف الكاتبة والمؤرخة مارغريت هيجونيت تمثيلات الانتحار على أنها "ذكورية" أو "أنثوية"، وتجد أنه منذ العصر الرومانسي، تم تأنيث حالات الانتحار الأدبية.
وتفترض أن حالات الانتحار الذكورية، كما في السرديات هي تلك التي تنظر للموت على أنه عمل بطولي للاحتجاج على الأخطاء الفردية أو الاجتماعية، في حين تأتي حالات الانتحار الأنثوية كنتيجة لمرض نفسي أو اختلال عقلي. على أيّة حال، فقد تناولت نظريات الناقدتان الأميركيتان ساندرا جيلبرت وسوزان جوبار تقسيم الشخصيات الأدبية النسائية على ملائكة أو وحوش في حالات الانتحار في السرديات.
والحقيقة أن الانتحار حبّا في الأدب وأثره وكل ما حوله معضلة، فلو قلنا إنه لا تحريض يمكن أن يظهر من هذه الأعمال، وتظل أخلاقية ضمن مفهوم المباح والممنوع.. فإننا سننكر دور الأدب الحقيقي على المتلقي، ولو قلنا إنه محرض وفعّال لأقررنا بهذا السلوك المتطرف، الذي لا يجوز أن نسوغه تحت أي ظرف.