الشعر والسرد

ثقافة 2024/11/12
...

 د. كريم شغيدل


قديماً كان هناك شعر قصصي، يسرد وقائع قصصيّة أو تاريخيّة بقالب شعري نمطي موزون ومقفى، مثلما هناك دراما "مسرحيات كلاسيكية" وملاحم مكتوبة شعراً، وكل هذه الأنماط أطلق 

عليها أرسطو فن الشعر فضلاً عن الشعر التعليمي، وتواضع الدارسون على تسميتها بالشعر الموضوعي، وهو ما يميز تلك الأنماط عن الشعر الغنائي، أي شعر الذات، ذلك النمط التعبيري الذي يجسِّد انثيالات الذات وانفعالاتها بإزاء علاقتها بالوجود أو بالآخر المخصوص بالغرض الشعري، لكنَّ هذا لا يعني ثمة فاصل حاد بين الشعر والسرد، فأقدم النصوص العربية تحاكي وقائع من التجربة اليومية للشاعر، أو وقائع مفترضة لتحفيز الخيال الشعري، بالمقابل هناك عناصر بانية هي التي تميز الخطاب الشعري عن السردي، ولعلَّ قوالب التعبير اللغوي هي التي تحدد الطبيعة الظاهرية 

للخطاب، أما عناصر التعبير والبناء الداخلي "المحتوى" فهي التي تحدد النمط أو هوية النص، فالقصيدة التعليمية- على سبيل المثال- ذات قوالب شعرية ظاهرة، لكنَّها ليست من الشعر، في حين أنَّ قصيدة النثر يمكن أن تحفل بشعريّة عالية من خلال تجاوزها القوالب 

الشعريّة.

في القصيدة الحديثة لم يأتِ السرد بصفة طارئة، إنما جاء بمثابة التعويض عن العناصر الشفاهيّة التي كانت تسند شعرية النص التقليدي، وأعني بها النظام الكمي لتفعيلات البحور والقوافي، ومع تطور أنماط النص السردي، من قصة قصيرة وأقصوصة ورواية وسيرة، حدث - على ما يبدو- نوع من التوجّس الثقافي، لا سيما مع شيوع فكرة موت الشعر واحتلال الرواية الحديثة لمنزلته ودوره الثقافي، فعلى خلفية شيوع الرواية المترجمة والمحلية على حد سواء، وانحسار المنبر الشفاهي للشعر وفقدانه الصلة المباشرة مع الجمهور، تبلور- في تقديرنا- هاجس الحفاظ على النوع، أو الخوف من الضمور الثقافي للشعر، حيث شيوع فكرة أنَّ الرواية هي قصيدة العصر الحديث، وهي فكرة تدعمها مقولات وجهود نقدية لها منطلقاتها الفلسفية ومناهجها الإجرائية، ومن ذلك مثلاً ما قاله باختين: "بصورة من الصور يمكن القول إنه مع الرواية وبها ولد مستقبل الأدب كله" 

بل إنَّ مفهوم النص المفتوح الذي سعى بعض الشعراء لتكريسه كان بمثابة جنس ثالث بين الرواية والقصيدة وهو تجسيد لما قاله شليغل من أنَّ "كل الشعر الحديث يستعير تلويناته الأصيلة من الرواية" 

والمقصود هنا عمليات التنافذ الأجناسي التي تبنتها القصيدة الحديثة، أو ما يطلق عليه "التناص" الذي هو أكبر من عمليات التأثر أو التضمين أو الاقتباس، إذ يشمل مختلف عمليات التوظيف الفني المبنية على تداخل التقنيات الفنية بين الشعر وسائر الفنون التعبيرية، مروراً باقتباسات اللغة والوقائع اليومية أو محاكاة النصوص الأخرى أو التقاطع معها، ولا نعني نصوص الشعر فحسب، وإنما نصوص الفلسفة والتاريخ والكتب المقدسة وغيرها فضلاً عن نصوص الأدب المختلفة.

   لقد شهدت الساحة الثقافيّة على المستويات العالمية والعربية والعراقية أيضاً، محاولات عديدة جادة ومهمة لكتابة الرواية أو السيرة الذاتية من لدن الشعراء، وقلَّما نجد شاعراً يكتفي بالشعر وحده، ذلك أنَّ غالبية شعرائنا يخوضون في ميادين كتابية مجاورة، كالرواية والمسرحية والقصة والكتابة الحرة عن 

الأماكن والمذكرات والقصة الخبرية وغيرها من فنون الكتابة 

النثرية، فالرؤية التي تتبلور عند الشاعر عن موضوع معين هي التي تحدد طبيعة العمل الثقافي، وهي التي تستدعي الأدوات التعبيرية التي تحدد جنس النص المنتج، وإذا ما اقتصرنا الكلام عن الشعر فهو "رؤيا في روح الإنسان التي يستطيع التعبير عنها، على أحسن وجه، بالوسائل التي في حوزته" كما يقول ليفنسن في كتابه أصول أدب الحداثة، ويرى البعض أنَّ طبيعة الذات المنتجة للنص وطبيعة علاقتها مع المحيط الخارجي هي التي توجه نزوع الشخص

نحو فن معين أو تحدد طبيعة المنتج الإبداعي ذلك أن المبدع يشتبك مع الأنا والآخر/ سيرته وسيرة من حوله، والطبيعة والكون والوجود والواقع، مراقباً وراصداً ومحاكياً ومنفعلاً، ويتحدد النص بحسب طبيعة

اشتباكاته. 

  إنَّ الشعرية العراقية سجلت نزوعاً واضحاً نحو البنى السردية التي ميزت بعض النصوص أو التجارب الشعرية، إذ شهدت الحقبة الشعرية الأكثر صخباً في التحولات الفنية للشعر، ونعني بها حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم انفتاحاً معلناً وصريحاً على مختلف عناصر السرد وتقنياته، إذ نجد مساحات يمكن تأطيرها كاملة على أنها سرد موضوعي مقصود، لا ينتمي إلى الشعر إلا من حيث كونه مضمّناً في نص مكتوب بقصدية الشعر لا السرد، كما أنَّ بعض النصوص الشعرية سعت لتحقيق شعريتها من خلال عناصر سردية متكاملة، أحداث وشخصيات وأمكنة وأزمنة، وبتقنيات سردية أيضاً، حوار "دايلوج" ومناجاة ذاتية "مونولوج" ووقفات وصفية واسترجاعات "فلاش باك" وبداية ووسط ونهاية، كما يمكن العثور على رواة مشاركين في الحدث وغير مشاركين ورواة ضمنيين.. 

إلخ. 

لكنَّها مع ذلك بقيت نصوصاً شعرية، بصرف النظر عن مستوى الأداء الشعري فيها، وهذه الظاهرة بحسب تتبعنا للمشهد الشعري في العراق، لم تكن خاصة بجيل دون آخر، وهي ليست خاصية أسلوبيَّة لشاعر معين أو نفر من الشعراء، بل هي ظاهرة شعريّة، نجدها عند مختلف الشعراء، متوفرة في نصوص الرواد "بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري" مثلما متوفرة عند شعراء الخمسينيات، وكانت واضحة في تجارب "سعدي يوسف ويوسف الصائغ وحسب الشيخ جعفر"، كما أنَّها واضحة في تجارب الستينيين وأخص منهم "سامي مهدي وفاضل العزاوي وجليل حيدر وخالد علي مصطفى"، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية التجارب اللاحقة، ما لم نقل إنَّ الظاهرة تفشت أكثر حتى أصبحت سمة طاغية من سمات القصيدة 

الحديثة.