الحبكةُ المركَّبة وانشطارُ الشخصيَّة

ثقافة 2024/11/12
...

 ستار زكم 


حين أبدأ بتسليط الضوء على رواية "ثرثرة في مقهى إيفانستون"، لهناء عبيد، لا بد لي أن أشير إلى مخيلة القارئ في هذا الجانب، عندما يلاحظ عنونة الرواية قد يتبادر إلى ذهنه وجود علاقة بين هذه العنونة ورواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، فلا أجد أي تناص بين العنونتين إطلاقاً، كون مفردة "ثرثرة" لا تأخذ طابعاً تناصياً في هذا الشأن إطلاقاً، أي إن هذه المفردة تندرج ضمن الشائع المطروق في الكثير من أبجدياتنا اللغوية، 

وهذا التبيان أجده ضرورياً كي نعطي حق الكاتبة في اختيارها لهذه العتبة المهمة، التي تتلاءم مع المتن النصي الذي سنشير إليه لاحقاً. 

الرواية بشكل عام تتحدث عن الغربة والألم اللذين يصاحبان الشخصية المغتربة عن وطنها الأم والأمنيات المكبوتة في حق العودة لجذر الانتماء الراسخ. فالغربة القاتلة التي تعيشها الشخصية لم تصمد في مصاحبة الحياة خارج وطنها، فتتعرض إلى اضطراب نفسي ضاغط بسبب طبيعة الحياة وما يتصل بها من مشقات عنيفة، تجعل من الشخصية البطلة (سيرين) تعيش حالة من (الاضطراب الوهمي)، وهذا الاضطراب يجعل من الشخصية أن تنشطر إلى شخصيتين (سيرين وسارة)، وهذا ما يدعو بطلة الرواية إلى أن تعقد موعداً مع شخصية سارة في مقهى يطلق عليه اسم (مقهى أيفانستون) كي تتحدث معها حول همومها وتطلعاتها في حياة الغربة، وتبدأ بعدها عملية الحوار بين الشخصيتين، لتتفاجأ سيرين بأن سارة ارتكبت جريمة قتل بحق زوجها، وتختفي تماماً عن سيرين خوفاً من ملاحقتها أو فضحها أمام القانون، ومن ثم تبدأ المراسلة عبر "الفيسبوك" بينهما بسبب طلب سارة من سيرين أن تكتب عنها رواية حول سيرتها الشخصية بالكامل، وهذا ما يتحقق لاحقا من خلال فصل حمل عنوان (رواية 

سارة). 

إن أول ما يجلب الانتباه حول هذا الاشتغال الفني هو وجود حبكة فنية مركبة. أي إننا إزاء روايتين متفاعلتين من حيث الصفات المشتركة نسبياً بين الشخصيتين، وهذا ما يفسر وجود علاقة حميمية بين الشخصيتين أعلاه وتشابه وتوأمة تكشف عنها بطلة الرواية في مناحٍ معينة عدة من جوانب السرد. 

إن العامل النفسي في هذه الرواية هو المحور الفاعل والركيزة الأساسية في الاشتغال الفني بشكل عام، وهذا ما يلمسه القارئ من خلال شخصية سيرين، التي حددت موعداً مع ذاتها في المقهى ويتضح ذلك في ما بعد في خاتمة الرواية. 

لذلك نستطيع أن نضمن وجود انشطار تام حدث داخل شخصية البطلة، ويبدأ البناء الفني بحالة من التجسير بين الشخصيتين بعد أن اعتمدت الكاتبة في بنائها الفني على تلك الشخصيتين وما يتصل بهما من شخصيات أخرى أسهمت في توليد الحبكة الفنية والتصاعد الفني نحو قمة 

الصراع. 

لقد جاء انشطار الشخصية ممثلا في الابتعاد عن حالة السكينة في ظل ثنائية الذات الراضية والذات الرافضة في آن واحد، وهذا الانشطار لم يؤثر في تحديد الشخصيتين واقعاً في تدوين الرواية (على الورق)، بل جاء التحديد الفني محبوكاً بفاعلية عالية جدا، لا سيما أن الكاتبة مهدت للقارئ عن وجود تشابه واضح بين سيرين وسارة، وجاء ذلك من خلال الحوار القائم بينهما، من خلال وصف الذات المتقاربة نسبياً، وهذا ما أنتج لنا حكايتين متوازيتين ومتنافرتين من حيث التصرف والحدث القائم، الذي أنتج عن وجود جريمة قتل قامت بها سارة، من خلال قتل زوجها، الذي حرمها من حقوقها الطبيعية والإنسانية، وجعل منها إنسانة مبتذلة، وهكذا يبدأ الصراع بين الشخصيتين على هذا الأساس، بالرغم من وجود علاقة متينة وقوية 

بينهما. 

في ظل هذا الاشتغال الفني المتميز نستطيع أن نؤكد من خلاله للقارئ أننا أمام تقنية توصف بالميتا سرد، الذي ولد حبكة فنية مركبة ومتماسكة وغير متشظية بعد أن عمدت الكاتبة إلى توظيف صفة الراوي المشارك في أكثر من شخصية التصقت بجوانب معينة من الأحداث التي وقعت، وهذا ما أسعف السرد التناوبي الذي اعتمدته الكاتبة بالانتقال من حدث إلى آخر، ما عزز هذا تفاعلاً وتداخلاً مهما بين سرد الحكايات داخل 

الروايتين. 

إن من يقرأ هذه الرواية يكتشف في نهاية المطاف (الخاتمة) أنَّ للخيال أثرًا فنيًّا بارزًا كون الشخصية المحورية في هذه الرواية قدمت لنا (رواية سارة) من نسج الخيال بعد أن توغل في داخلها الاضطراب الوهمي، لذلك يصبح تحديد الخيال بالنسبة للقارئ فهمًا مؤجلًا يتم اكتشافه لاحقا في الأحداث التالية من الرواية، لكنه كان متحققا بالفعل منذ جلوس شخصية سيرين على طاولة في المقهى، بعد أن طلبت من النادل إحضار فنجانين من 

القهوة.  

إن العامل الفني عزز كثيرا من أهمية هذه الرواية، حيث جاءت المنولوجات الخاصة بالشخصيات مناسبة جدا، لا سيما أن هذا النمط الفني يكون عادة متماهيا مع سلوكيات نفسية مضطربة، تبقى دائما منزوية وهي تتحدث مع ذاتها بعيدا عن أي موجودات 

أخرى. 

لم تكتف الكاتبة عند هذه الجوانب الفنية الماتعة فحسب، بل أخذت حيزا فاعلا في اتساع الفضاء الحكائي، من خلال رصد الأمكنة المجاورة والبعيدة لتبيان الأثر، الذي بقي في ذهن الشخصية، وحالة الاستذكار الخاص بالحنين إلى أيام الطفولة والصبا، بالرغم من عدم التعمق في توصيفات تلك الأمكنة بشكل أشمل وأدق، وهذا قد يتواءم مع تجسير حالة أخرى لها علاقة وطيدة بالجوانب النفسية والعقدية، التي أثرت في شخصية البطلة من الناحية العقلية، الذي استوجب في الأخير عرضها على طبيب مختص لمعالجتها بمساعدة زملائها وزميلاتها، حين اكتشفوا أن شخصية سيرين هي ذاتها شخصية سارة وأنها كانت تعيش حالة من 

الوهم.