هل لمجلاتنا الأكاديميَّة وجودٌ في الثقافة العراقيَّة؟
صفاء ذياب
في آخر تقرير نشرته معامل آرسيف السنوية للعام 2024، احتلَّ العراق المركز الثالث في عدد المجلات العلمية بـ159 مجلة بعد الجزائر ومصر، في حين كان عدد المؤلفين المستشهد بدراستهم 17420 مؤلفاً، وبهذا احتلَّ العراق المركز الثاني بعد الجزائر في عدد الباحثين.
لم تعلن معامل آرسيف الآليات التي اعتمدتها في هذه الاختيارات، لاسيّما أنَّ الباحثين العراقيين يعانون من ندرة المجلات العلمية في العراق من جهة، ومن ثمَّ المراكز العلمية التي تصدرها هذه المجلات، إن كانت على مستوى الجامعات العراقية أو مراكز البحوث.
وربَّما كانت العلوم أكثر قدرة على إنتاج باحثين من العلوم الإنسانية، ويقصد هنا بالباحثين الذين يؤثّرون في مجال البحث العلمي، مقارنةً بالعلوم الإنسانية التي تشهد تزايداً مضطرداً بناءً على افتتاح كليات إنسانية في جامعات مستحدثة بشكل مستمر، وهذه الجامعات بدورها ستصدر دوريات أكاديمية تمهّد للباحثين أماكن من أجل الحصول على الدرجات العلمية التي أصبحت يسيرة على معظم الباحثين.
فمن المعروف على مدى العقود الماضية، أنَّ أهم النظريات في العلوم الإنسانية، لغوياً واجتماعياً وفلسفياً وتاريخياً وغير ذلك، صدرت في دوريات أكاديمية في أوروبا وأميركا، في حين بقيت مجلاتنا الأكاديمية مكاناً يدفع له من أجل نشر البحث، وبالتالي بمجموع عدد من البحوث يحصل الأكاديمي على الدرجة العلمية ضمن معايير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.. في حين لم تنتج هذه البحوث نظريات أدبية أو فكرية، يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة في هذه العلوم.
ففي ظل وجود مجلات أكاديمية محكمة عربية لها اسمها وتاريخها، مثل مجلة فصول المصرية، والثقافة الشعبية البحرينية، وعالم الفكر الكويتية وغيرها… أين وجود المجلات الأكاديمية العراقية الفعلي؟ وما أهميتها للقارئ العراقي؟
الأكاديمية تحتمي بنفسها
يؤكّد الدكتور صلاح حاوي على أنَّ المؤسسات الأكاديمية وضعتْ وتعارفت على أعراف ومقاييس تحتمي بنفسها، وتخضع لوسائل التواصل التي تقترحها وتحفظ لها سياقاتها ونظامها وطرق التعامل بين مكوّناتها، فهذا الاحتماء يضمن لها الاستمرار المغلق المكتفي بالذوات المنتمية لها، ولا تسمح بالاختراق الثقافي ما لم يحصل المثقف على الجواز الأكاديمي، ولذا فليس من السهل أن تخضع لضوابط المجتمعات حتَّى إن كانت احتياجات ثقافية، المفهوم ذاته جعل المجلات الأكاديمية تنصاع له وتكون أحد مصاديقه، فإنْ كان الحديث في حساب المقارنة بين مجلات عربية محكّمة ذات تداول وتأثير في الوسط الثقافي في مقابل مجلات عراقية أكاديمية خاضعة لضوابط الاحتماء التي تحدثت عنها، فإنّ المقارنة غير قابلة للاكتمال، وعلى سبيل المثال لو نلحظ مجلة فصول التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1980 وهي هيئة غير أكاديمية ترأّس الشاعر والمحرّر الأدبي صلاح عبد الصبور الذي لا يرتبط بالمؤسسات الأكاديمية، فضلاً عن الهيئة التي تصدر عنها تعمل ضمن فضاء ثقافي مفتوح يحقّق هذا التأثير في أوساط ثقافية محلية وعربية، بينما تجد– على سبيل المثال- مجلةً مثل مجلة كلية الآداب جامعة البصرة صدر العدد الأول من داخل المؤسسة التعليمية- أي كلية الآداب ورئيس التحرير عميد الكلية- وتزامن معها ظهور العدد الأول من مجلة المربد الصادرة عن كلية الآداب أيضاً في جامعة البصرة ويرأس تحريرها عميد الكلية الدكتور مصطفى عبد الحميد، وأمر المقارنة يتكرّر مع مجلات عربية أخرى مثل عالم الفكر الكويتية الصادرة عن مؤسسة ثقافية غير أكاديمية وهي المجلس الوطني للثقافة والفنون، وصدر العدد الأول برئاسة الشاعر والكاتب أحمد مشاري العدواني، إذا ما قورنت بمجلة أطول عمراً وأبعد تاريخاً في التأسيس يعود إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي، لكنّها أقل تأثيراً وانتشاراً من عالم الفكر وأعني مجلة كلية الآداب في جامعة بغداد التي أشرف على تحريرها هيئة من رؤساء الاقسام العلمية في الكلية ذاتها وبإشراف عميدها الأكاديمي المهم الدكتور مهدي المخزومي، فضلاً عن جهة الإصدار وهيئة التحرير، فإنّ المجلات الأكاديمية- أعتقد جازماً- ليست العراقية وحدها ينطبق عليها هذا السلوك في النشر، بل المجلات العربية الأكاديمية، ومثلما لم يسمح هذا النوع من المجلات بدخول الغرباء من غير الأكاديميين لاختراق جدارها المحصّن بالشهادات العلمية، فكذلك الأمر مع الموضوعات التي لا تتناسب مع الطابع التخصّصي الأكاديمي، فلا مكان لها، وإذا أعدنا النظر بمقارنة التأثير والانتشار، فيبدو أنّ من حق مجلة الأقلام أو التراث الشعبي أن تُذكر وتدخل في حلبة المنافسة لاسيَّما في مراحل مختلفة من حيث النشاط والتوزيع، إذ كان لها حضور عربي ومحلّي قد يضاهي أو يقارب فصول وعالم الفكر ونوافذ وجذور وغيرها، لأنَّها لم تخضع للضوابط التي خضعت لها المجلات الأكاديمية، فنلحظ طراد الكبيسي وحاتم الصكر أو لطفي الخوري وغيرهم لم يكونوا ضمن أطر حدّدتها المؤسسة الأكاديمية، بل ضمن أطر الثقافة والنقد، كذلك الموضوعات والكتّاب في هذه المجلات العراقية غير الأكاديمية.
معايير مخصّصة
ويرى الدكتور رحمن غركان أنَّ المجلات العلمية الأكاديمية المتخصّصة في العراق تقدّم أبحاثاً ودراسات نوعية متخصّصة يحدّدها علمياً المستوى العلمي للعقل الأكاديمي من جهة العطاء النوعي التخصّصي، كما تؤثّر فيها كثيراً معايير القبول العلمي في الدراسات العليا لمن يروم الحصول على شهادات (الدكتوراه، الماجستير، الدبلوم العالي..) ولعلَّ الدرس العالي شأن جوهري فاعل في هذا الاتجاه والملحوظ عليه محلّياً غلبة الكم المدفوع بمجرّد الرغبة على النوع المتحصّن بالإمكانية العلمية الذاتية. وكلّما شاعت تلك الرغبة من دون إمكانيات حقيقية يتوافر عليها الراغب شاع الضعف في الدرس العلمي وشاعت البساطة والسطحية في المخرجات المنشورة عن ذلك، وهنا لابدَّ من تحصين معايير القبول العلمي ليسهل بعد ذلك تحصين المنشور العلمي في المجلات الأكاديمية المتخصّصة لأنَّ المجلات الأكاديمية تتعامل مع تلك المخرجات بشكل رئيس.
وممَّا يميّز المجلات النوعية المؤثّرة في العالم العربي اليوم أنَّها تنشر المادة العلمية الخالصة المستجدّة لأصحاب الإمكانات العلمية الحقيقية لأنَّ العلم الحقيقي يحدّه الإنجاز المستجد المضاف للمعرفة وليست التقليدي المكرّر وهذا يتحقّق حين تُعنى المؤسّسات العلمية الأكاديمية بكل ما تنطوي عليه من منابر ومنها منبر المجلات المتخصّصة عنايةً مأخوذة بالجديد النافع الماكث في الارض، وتنأى عن تكرار الشائع التقليدي.
رصانة مفقودة
ويأسف الدكتور سعد التميمي لعدم مواكبة مجلاتنا العلمية ما وصل إليه البحث العلمي فعلى سبيل المثال، كاشفاً أنَّه عضو هيئة استشارية في مجلة علمية محكّمة، وقد “طلبوا منّي أن أرشّح لهم أكاديمياً يفيد المجلة وقد رشّحت لهم استاذاً متميّزاً وصاحب رؤية وخبرة يعمل في جامعة قطر، لكن للأسف لم تستشرنا المجلة طوال سنتين كما أنَّها لم تسمع لمقترحاتنا لتطويرها”، وهذا الأمر موجود في المجلات العلمية المحكّمة كلّها تقريباً، أنَّها اقتصرت على البحوث التي يجب أن ينشرها طلبة الدراسات العليا ومعظمها ضعيفة وتقليدية لا تمتلك الأصالة التي غابت عن مجلاتنا العلمية المحكّمة، فضلاً عن أنَّ التقييم شكلي، وهي مرتبطة بالكليات والجامعات، أمَّا ما طرحته بخصوص مجلة فصول فهي مجلة محكّمة تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في النقد الأدبي تنشر الدراسات والبحوث العلمية الرصينة في مجال النقد الأدبي الحديث تنظيراً وتطبيقاً وكذلك مجلة عالم الفكر الكويتية التي تهتم بنشر الدراسات والبحوث التي تتسم بالأصالة النظرية والإسهام النقدي في مجالات الفكر المختلفة ومجلة الثقافة الشعبية هي مجلة علمية متخصّصة بالتراث الشعبي تقدّم التراث من البحرين إلى العالم بالتعاون مع المنظمة الدولية للفن، فهي مجلات لها سياستها الثابتة التي لم تتغيّر منذ تأسيسها ويتولّى تحريرها كفاءات لها خبرتها الواسعة في البحث العلمي، وما يقابل هذه المجلات هي الأقلام والمورد، لكنَّ الأقلام غير محكمة للأسف.. لذلك، يجب العمل على تعزيز رصانة المجلات الأكاديمية العراقية لتحقّق الحضور على الصعيدين العربي والدولي، وتحقيق المزيد من التفاعل الثقافي والمعرفي، من خلال إعادة النظر في سياستها واختيار الكفاءات العلمية لإدارتها.
مصدر تمويل
ويبين الدكتور جاسم الخالدي أنَّ الواقع يشير إلى أنَّ هناك عدداً من المجلات الأكاديمية التي تصدر من الجامعات العراقية ومراكز البحوث. بعضها يتمتع بتاريخ طويل في جامعات بغداد والبصرة والموصل والمستنصرية، وبعضها قد أصدرتها الجامعات الحديثة. ومع ذلك، ما زالت هذه المجلات تواجه تحدّيات كبيرة مثل: التمويل المحدود، وقلّة التوزيع، وأنَّها أصبحت تنشر ما هو صالح وغير صالح، على الرغم من وجود محكّمين أساتذة، لكنَّ آراءهم في كثير من الأحيان لا تؤخذ بالحسبان؛ لأنَّ الجامعات تتعامل معها على أساس أنَّها مصدر صرف لها. ولم يضع القائمون عليها في خلدهم الأهمية الحقيقية للمجلات الأكاديمية، وأثرها في تطوير الخطاب الأكاديمي العراقي، وتمكين الباحثين من التواصل مع الإنتاج العلمي الحديث. كما أنَّها تؤدّي دوراً في نشر الدراسات المتعلّقة بالشؤون المحلّية التي قد لا تجد اهتماماً مماثلاً في المجلات العربية الأخرى. ومع ذلك، يبقى التحدي في تعزيز التواصل بين هذه المجلات والقراء، لاسيّما في ظلِّ الثورة المعلومات وتعدّد قنوات التواصل الاجتماعي التي تتطلّب التحوّل نحو النشر الإلكتروني ورفع مستوى جودة طباعتها وتحريرها.
بالمقارنة مع مجلات مثل “فصول” و”الثقافة الشعبية” و”عالم الفكر”، نجد أنَّ المجلات العراقية ما زالت في حاجة إلى دعم أكبر للوصول إلى مستوى المنافسة العربية والدولية. أمَّا الأمر الآخر، فإنَّ القائمين على هذه المجلات، من غير الاختصاص، فغالباً ما يكون اللقب العلمي أو المنصب حاكماً في تعيين رؤساء تحريرها، ممَّا يجعلها تعاني من جوانب فنية كثيرة.
وثمّة أمر آخر، أنَّ اتساع دائرة النشر فيه من طلبة الدراسات العليا الذين ألزمتهم الوزارة بالنشر، فإنَّها أثّرت سلباً في جودة البحوث المنشورة.
كما أنَّ أكثر هذه المجلات علّقت الطباعة الورقية أو جعلت الأعداد المطبوعة على عدد أصحاب البحوث المنشورة. وبذلك انحسرت دائرة توزيعها. ولذلك لا يمكن مقارنتها مع المجلات العربية.
تأثير متبادل
ويحسم الدكتور عمار المسعودي الخلاف حول جدوى عمل هذه المجلات مبيناً أنَّه لا يخفى على أحد أنَّ المؤسسات الثقافية تمثّل جزءاً من بنية الوجود السياسي أو الاجتماعي لأيِّ بلد، وبهذا تخضع للتحوّلات وللأنظمة المراعاة سلباً أم إيجاباً.
ومن هذا تكون المجلات المحكّمة على هذه الوتيرة من الربط التناوبي، فإن صلحت الجامعات صلحت وإن أصابها الضعف والهوان تعرّضت.
من هنا نتمكّن من البوح المر والمؤلم بشأن التعليم العالي الذي يمتنع عن التدريس العالي فيه إشرافاً ومناقشات كثير من الأساتذة الذين يشاهدون ويلمسون حجم الهوان الذي أودى بالرصانة العلمية التي كان يتمتّع بها التعليم بالعراق ما يجعل الرداءة تتسيّد على الجودة سواء بانتشار المكاتب التي تبيع أطروحات وبحوثاً بلا رقابة ثمَّ تناقش هذه وتجاز.
فضلاً عما أصاب التعليم العالي ومجلاته جرَّاء التعليم الأهلي الذي يكون انشغاله بالأرباح لا بالرصانة أو الجودة.