د. كريم حواس علي *
في مواجهة التحديات البيئية المتزايدة، التي يعاني منها كوكبنا، من التلوث إلى فقدان التنوع البيولوجي والتغير المناخي، أصبح من الضروري التفكير في طرق جديدة لإعادة بناء التوازن بين الإنسان والطبيعة. في هذا السياق، ظهر مفهوم "الشفاء البيئي"
الذي يركز على كيفية التفاعل مع الطبيعة بشكل يعزز من تعافي البيئة والحفاظ عليها. ومن بين الأدوات التي أثبتت فاعليتها في هذا المجال، يبرز الفن كوسيلة قوية لتفعيل هذا المفهوم "الشفاء البيئي"، سواء كان من خلال التعبير عن الأضرار البيئية، أو في إشراك المجتمعات المحلية في عملية الإبداع.
إن أحد الأدوار الرئيسة التي يؤديها الفن في سياق الشفاء البيئي هو التعبير عن الأضرار، التي لحقت بالبيئة. عبر الأجيال، حيث استخدم الفنانون أعمالهم لتوثيق مشاهد طبيعية دمرت بفعل التلوث أو الأنشطة البشرية، التي ألحقت الأضرار الكبيرة بالبيئة. ويمكن أن تكون الأعمال الفنية، سواء كانت الجداريات أو اللوحات، والنصب، والأفلام وسائط فعالة لإيصال واقع الأضرار البيئية إلى الجمهور، ما يعزز من الوعي العام بأهمية حماية البيئة. وربما تكون تلك الأعمال الفنية، تخلق إحساسًا بالإلحاح، ما يدفع الناس للتفكير بشكل أعمق حول مستقبل البيئة أو المحيط الذي نعيش فيه. وبذلك لا تقتصر وظيفة الفن على مجرد توثيق المشهد البيئي، بل يتجاوز ذلك ليحفز على التحرك الجماعي نحو الإصلاح البيئي.
فضلا عن توثيق الأضرار، يمكن أن يكون الفن أداة فعالة في إعادة التوازن البيئي، من خلال استعادة المساحات الطبيعية أو المساعدة في خلق تجارب تفاعلية مع البيئة. "الفن البيئي"، وهو أحد الحركات التي تهدف إلى استخدام الفن في الأماكن الطبيعية أو المجتمعية، لتحفيز الناس على الشعور بالتواصل العميق مع محيطهم الطبيعي. ما يتيح للناس التفاعل المباشر مع عناصر البيئة، وهناك العديد من الفنانين الذين استخدموا الطبيعة كجزء من أعمالهم الإبداعية، ما يعزز من فهم الأفراد لأهمية التوازن البيئي. هذا النوع من الفن قد يسهم في إعادة الاعتبار للجمال الموجود في الطبيعة ويشجع على الاستدامة.
كما أن أحد أبرز أدوار الفن في الشفاء البيئي هو دوره في توعية المجتمع وتحفيز الأفراد على المشاركة في الحلول البيئية. فالفن يوفر منصة للتفاعل بين الفنانين والمجتمعات، حول قضايا بيئية حساسة. من خلال المشاريع الفنية المجتمعية مثل الجداريات البيئية، وورش العمل، أو العروض المسرحية التي تسلط الضوء على القضايا البيئية، بما يسهم بتحفيز الأفراد على التفكير في سلوكهم اليومي وتأثيراتهم في البيئة.
مشاريع مثل "فن الشوارع البيئي" أو "الفن المجتمعي" في المناطق المتأثرة بالتلوث أو الفقر البيئي، والتي تهدف إلى تعزيز الوعي البيئي بأسلوب إبداعي. ، من خلال أعمال فنية تركز على إعادة تأهيل المساحات الخضراء. هذه المبادرات لا تهدف فقط إلى تحسين الفضاءات العامة، بل تشارك المجتمع في عملية التعافي البيئي.
إننا نعلم أن الفن لا يقتصر دوره على الشفاء البيئي فحسب، بل يمكن أن يسهم أيضًا في الشفاء النفسي والروحي للأفراد، الذين يعانون من آثار التدمير البيئي. والطبيعة هي مصدر إلهام للعديد من الفنون التي ترتبط مباشرة بالصحة النفسية، حيث تمثل الفضاءات الطبيعية بيئةً هادئة تجلب الراحة ومصدر الاسترخاء في تلك الفضاءات، أو التنقل بين الأمكنة الطبيعية غير الملوثة بصرياً، يمكن أن يعيد للإنسان إحساسه بالتوازن الداخلي.
الفن البيئي يمكن أن يشمل أيضًا أنشطة علاجية مثل الرسم أو النحت باستخدام مواد طبيعية، ما يساعد الأشخاص على التعبير عن مشاعرهم تجاه البيئة وإعادة الاتصال بها. مشاريع العلاج بالفن قد تكون من أشكال العلاج، التي تدمج بين الفن والنشاطات البيئية في محاولة لشفاء الأفراد من تأثيرات الاضطرابات النفسية المرتبطة بالبيئة المدمرة، مثل القلق أو الاكتئاب البيئي الناتج عن الأزمات البيئية.
الفن لا يقتصر فقط على معالجة الماضي، بل يمكنه أيضًا أن يكون أداة لتحفيز التفكير الابتكاري في مستقبل البيئة. هناك العديد من الفنانين الذين يستخدمون المواد المعاد تدويرها أو المواد المستدامة في أعمالهم، ما يروج لفكرة الاستدامة ويعزز الوعي باستخدام المواد البيئية.
فعلى سبيل المثال، يستخدم العديد من المواد القابلة لإعادة التدوير في النتاجات الفنية لدى طلبتنا في أقسام كلية الفنون الجميلة، خاصة قسم التربية الفنية، لما في ذلك من أهمية كبيرة في المشاركة بحماية البيئة أو التعبير عن ضرورة وأهمية حمايتها . من خلال هذه الأعمال، يعزز الفن ثقافة الاستدامة ويشجع على تبني ممارسات حياتية أكثر وعياً بالبيئة.
الفن كأداة للشفاء البيئي يشكل جسراً بين الإنسان والطبيعة، وبين الحاضر والمستقبل. من خلال الأعمال الفنية التي توثق الأضرار البيئية، وتحفز التفاعل المجتمعي، وتعمل على تعزيز الوعي البيئي، كما يسهم الفن في بناء مستقبل أكثر استدامة وتوازنًا. الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو أداة قوية، يمكن أن تساعد في إعادة إحياء علاقتنا مع البيئة، وتحقيق الشفاء البيئي على المستوى الفردي والجماعي.
* كلية الفنون الجميلة