جمال العتابي
تتضح معالم الالتقاء بين الماضي والحاضر في أعمال الفنان النحات طه وهيب، التي يحتفظ فيها بمكنونات حضارة تمتد عبر التاريخ، ما زالت تحفظ طراوة الطين وحرارة الشمس حتى بعد غيابها. تقتضي الغور إلى نبضها حيث تختزن طاقات إيحائية كبيرة، ليس مصادفة أن ينطلق وهيب من الموضوع، فهو السر الذي يمنح أعماله حياتها الخاصة، بحيث لا تتعارض مع رؤاه الفنية وانحيازه للحداثة. فثمة موضع للحوار بين تأثره بأساليب الرواد من أساتذة النحت العراقي وبين نزوعه إلى التجارب النحتية العالمية، وتأملاته الدؤوبة في منجزات الفنان الرافديني القديم.
لقد وجد الفنان ضالته التي قادته للتعرف على لغة النحت المعاصر من خلال جواد سليم ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح وآخرين، وأعمال النحاتين العالميين في ابتداع أسلوبه الخاص الذي عالج فيه أعماله البرونزية بإحساس إنساني صادق انعكس في صياغة الجسد الإنساني المتسامي نحو الأعالي، رغم استناده الوثيق إلى الأرض، متمثلاً بالأطراف الطويلة والأجساد الممشوقة التي تحيل المتلقي إلى أعمال الفنان العالمي جياكوميتي من خلال اللمسات الحية النابضة بالانعكاسات الضوئية في العمل النحتي. أما السطوح التي تتنوع بين الخشن والملمس الناعم فتضفي على العمل حسّاً درامياً في تألق العمل وحضوره.
وتركت أساليب أولئك انطباعاً خاصاً لدى وهيب إلا أنها لم تظهر تأثيرها بصورة مباشرة، وتستحوذ على اهتمامه بمعالجة الجسد الإنساني بتكوينات طولية تميل إلى التلخيص الشديد، والتحوير الكثيف للأطراف في محاولة لإقامة توازن مقبول وبإيقاع متناغم بين الكتلة والفراغ.
اعتمد وهيب على ثقافة بصرية متنوعة تستفيد من إنجازات النحت العراقي والعالمي، وهذا ما دعاه إلى أن يزاوج بين التشكيل المعاصر والمضمون الإنساني المتطلع إلى حرية الإنسان برؤية حديثة وعبر حلول تشكيلية تقترب من التجريد في تكوينها العام، من غير أن تستغني عن الملامح الإنسانية التي حوّرتها يد الفنان لتنسجم مع نوازع التحديث، ومعالجة المادة بأسلوب يكشف عن طاقته التعبيرية وخصائصها
المتنوعة.
وفي ظروف التغيرات الاجتماعية والمفاهيم الفكرية راح الفنان يعيد النظر في ما تركته القيم الجديدة من حالات روحية، وتأثيرات مادية في الفن والحياة، وشرع يتمثل تلك الرموز في عقله وقلبه ووجدانه، فانعكس ذلك في إنتاجه الإبداعي وحاول أن يستقي مفردات البيئة والتراث والحكايات والأساطير فأودعها في منحوتاته.
المتابع يتمكن بسهولة من أن يتعرف على حضور تلك المفردات بقوة في أعماله: "الخيول، المرأة، آلهة الجمال والخصب، الشمس، القارب، الهلال، الثور، النخلة، الطيور". فمن خلالها يبدو وهيب أكثر حضوراً بطاقته الخلاقة، ووعيه الفكري والاجتماعي الذي يفرض عليه حلولاً تشكيلية تتوافق مع موقفه الجمالي والتقنيات التي تفرضها ثقافته البصرية في جعل العمل النحتي مكتنزاً بالمعنى، فهو يرى نفسه معنياً بالهمّ الاجتماعي والوجودي والظرف التاريخي الذي يعيشه إنسان العصر. وهكذا توالت نتاجات الفنان المبدعة في ميدان النحت، وبات بقدرة المتتبع لأعماله، الكشف عن الهوية الفنية لها والتعرف على خصائصها، بعد أن نضجت وأصبح لها حضور واضح في المشهد التشكيلي العراقي.
الوعي بخصائص البرونز قاد وهيب إلى هذه الخامة في أغلب أعماله وكرّس جهده لتطويعها في التأكيد على موضوع الجسد الإنساني في محاولة شاقة لتفجير الطاقات الحبيسة فيه، هذا الانشغال الكلي بمادة خام من المؤكد يدعو المتابع المتخصص إلى التساؤل عن مغزى هذا التوجه. وحقيقة الأمر أن الفنان حاول التوفيق بين خواص خامة البرونز والموضوع المتناول، والتوفيق بين الشكل والمضمون، كما حاول تقديم رؤاه وأفكاره الخاصة حول مفهومه للنحت وأهميته وتقاناته ومدارسه عبر سلسلة من الحوارات مع الخامة لتحقيق الصيغة النحتية القائمة على دراسة الكتلة في الفراغ، والسعي بأكبر قدر ممكن لخلق حالة التوازن بين هذه الأشياء جميعاً في العمل النحتي، ومن دونها لا يمكن الوصول إلى الغايات المثلى في العمل. الذي تجسد في قدرته وتمكنه من تطويع البرونز بمهارة فائقة استطاع بها التفوق على طبيعة الخامة الصمّاء فمنح أعماله انسيابية مثيرة للدهشة.
أنجز الفنان طه أعمالاً نحتية مهمة طرزت مدينة بغداد ومدناً عراقية أخرى، نشير إلى أبرزها: تمثال عبد الكريم قاسم، إعادة تمثال عبد المحسن السعدون، نصب البذرة، الجندي العراقي، المشاركة في تنفيذ نصب شهداء كردستان، شهداء الجزيرة في العمارة، تمثال الكرملي، تمثال الشهيد علي النّداوي، كما شارك في العديد من المعارض المحلية والخارجية. ونال جوائز مهمة في المسابقات النحتية، وفي كل ما أنجزه من أعمال كان على وعي تام في اختيار خامة البرونز كمادة لأعماله، إذ تحتفظ بطاقة روحية متحركة معبرة عن أسباب حضورها ومغزى وجودها الفني.
البرونز أقدر على استيعاب تجاربه في النحت على النحو الذي يمنحه الإحساس الذي يريد، ولذلك جاءت تجاربه مع المواد الأخرى مختلفة في المستوى والمعنى، بيد أنه لم يتردد في أن يجرّب الرسم حينما يشعر أن الفرصة سانحة للتعبير عن طاقاته التشكيلية.
حضور المرأة في أعماله يحمل أكثر من دلالة كعنصر تشكيلي في أعماله الفنية، فهي تثير اهتمامه كرمز متعدد المعاني والغايات فهي الحب والنماء والخصب والجمال والأمومة والوطن، المرأة في رؤاه الفنية رمز للعطاء والنهوض والتضحية، والأنوثة، نساؤه: طويلات، رشيقات، امتداد عمودي في منتهى الرقة والجمال، ومنحنيات أو مستلقيات بعذوبة وحنان.
لقد استطاع النحات طه وهيب عن رغبة جادة في امتلاك أدواته، ترسيخ تجربته الفنية ولم تقف العقبات والصعوبات التي اعترضت سبيله أمام طموحه الجسور في تحقيق موقعه المتميز في المشهد التشكيلي العراقي، حيث يمضي في تعميق التجربة ورسوخها.