انتزاع الذات

ثقافة 2024/11/14
...

 ترجمة: كامل عويد العامري

الحوريات: هي آخر ما صدر للكاتب الجزائري كامل داود في 15 / 8 / 2024، عن دار غاليمار وفازت مؤخرا بجائزة غونكور، للعام نفسه. الشخصية الرئيسة هي أوب، شابة جزائرية تحمل في جسدها آثار الحرب التي لم تعشها، لكنها تعاني من صدمة الحرب الأهلية في التسعينيات التي عايشتها. أوب لديها ندبة في رقبتها مع تلف في أوتارها الصوتية، مما جعلها خرساء. تحلم بالعودة إلى صوتها، 

ومع ذلك، لا تستطيع سرد قصتها إلا لابنتها التي تحملها في رحمها. وتتساءل أوب عما إذا كان لها الحق في أن تكون أما عندما سُلبت منها الحياة تقريبًا، وهي إذ تقيم في بلد تعاقب قوانينه كل من يتحدث عن الحرب الأهلية. تقرر العودة إلى قريتها الأصلية، حيث بدأت معاناتها، على أمل أن تجيبها الأرواح التي فقدتها.

تحرق الشمس الشاطئ وتصيبك بالجنون. طلقة واحدة، طلقتان.. كانت هناك خمس طلقات. وفي النهاية، جثتان، قتيلان- العربي تحت الرصاص، ومورسو تحت المقصلة.

لا يمكننا تحديد ما إذا كانت رواية "مورسو، تحقيق مضاد" تستوحي الكثير من "الغريب"، أو "أسطورة سيزيف"، أو "السقطة"، فكل عمل من أعمال كامو يحظى بتكريم واسع في هذه الرواية. لقد كان كامل داوود قارئًا متعطشًا للأعمال التي كتبها ابن عنابة الجزائرية المتألّق، وهو واحد من أولئك الذين استكشفوا جميع دوائر الفكر الكاموي، من العبث إلى التمرّد، ومن التمرّد إلى الحب.

في هذه الرواية، يمزج كامل داود بين قضايا هذه الأعمال الثلاثة، السرد العبثي والاعتراف. ومع ذلك، فإننا لا نواجه تقليدًا مزيفا أو نسخا، بل تحفة فنية من روائع عصرنا، تتحدث بقدر ما عن الجزائر المعاصرة، بقدر ما تتحدث عن الحالة الإنسانية الشاملة، وعن الخوف الذي يؤدي إلى النزعة الظلامية، بقدر ما تتحدث عن ثمن الحرية.

كامل داود. إنه رجل عميق، حرره الأدب، وخاصة الأدب الفرنسي، كتب داوود: "لقد بنيت حريتي بالكتب". تماماً كما كتب فارغاس يوسا ليغير العالم، يكتب داود بدافع "الضرورة المطلقة". فما الذي كان داوود يحتاجه ليحرر نفسه منه؟ كان داود شاباً عندما أغرته الإسلاموية المتطرفة، متبنياً رؤية دينية خالصة وطائفية للغاية، وكان قارئاً مخلصاً "للكتاب"، وبالتالي كان كتابا واحدا أغلقت أبواب تأويله على الأكثر تطرفا في القرن الرابع الهجري. كيف يمكن كسر أقوى السلاسل الداخلية، والأيديولوجيات، وشراك الأفكار الجاهزة؟ يؤكد داود من دون تردد: بالقراءة. القراءة تحطم الأفكار الجاهزة والتفكير المسبق.


تحديد اللغة العربية 

على غرار رواية "السقطة" لألبير كامو، تُعتبر رواية "مورسو، تحقيق مضاد" اعترافًا. نحن في بداية القرن الحادي والعشرين. يبوح رجل جزائري عجوز يدعى هارون بأسراره لشاب غريب في حانة "تيتانيك" بوهران، تلك الجوهرة الجزائرية حيث تتوالى الليالي الحارة على الأيام المشرقة المليئة بضوء البحر الأبيض المتوسط. تبدأ رواية "مورسو، تحقيق مضاد" بعبارة: "ماذا تريدون أن أقول لكم، سيدي المحقق، عن جريمة ارتكبت في كتاب؟" وهي إشارة واضحة إلى كل من استمتع من قبله بلعبة العلاقة بين النص والنص الوصفي، مثل خورخي لويس بورخس في "مكتبة بابل"، ولويجي بيرانديللو في "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، وإيتالو كالفينو في "كان هناك مسافر في ليلة شتاء".

"اليوم، أو ربما منذ خمسين عامًا، مات أخي": كان هذا يمكن أن يكون بداية أخرى لهذا الكتاب المذهل. تدعونا لعبته الأدبية إلى الغوص في متاهات الذاكرة. يروي الرجل العجوز ذكريات طفولته، من بينها موت شقيقه الأكبر المؤلم، الملقب بـ "موسى"، وهو ليس سوى "العربي" الذي قتله مورسو في رواية "الغريب". يسكب هارون، مدفوعًا بالنبيذ الفاخر وبقليل من الانتقام والشعور بالذنب ما في قلبه. تلتقط أذن الشاب اليقظة الذي يجلس أمامه ثقل اللامبالاة، والدين، والاستعمار، والاستقلال الجزائري. بعد خمسين عامًا من نشر الكتاب الذي كان بطله مورسو، كان لدى هارون قبل كل شيء هاجس واحد، واستياء لا ينطفئ: لقد نُسي موسى. فلماذا إذن شقيقه فقط " شخص مجهول لم يتسنَّ له حتى أن يمتلك اسما" في رواية كامو؟

لا يستطيع هارون التخلي عن ذكرى شقيقه، وعن ذكرى الأمهات الجريحات أو المجروحات، وعن ذكرى شعب بأكمله مرتبط بهزات التاريخ.

"هل لاحظت جيدًا؟ كان اسم أخي موسى. كان له اسم." لا يمكن أن يكون موسى مجرد "العربي" في رواية كامو. هل يوجد هذا العربي حقًا، الذي كان يغني له سيرج ريجياني، والذي يخبرنا عنه رياض سطوف [الفرنسي - السوري رسام كارتون وفنان قصص مصورة وكاتب ومخرج وممثل] إنه قد يكون "من المستقبل"؟ هل كان موسى يمكن أن يكون قبائليًا أو شاويًا أو مزابيًا بينما كان مورسو ومعاصروه لا يرونه سوى عربي؟ يريد هارون أن يروي قصة شقيقه: "أقول لك مباشرة: القتيل الثاني، الذي اغتيل، هو أخي. [...] أنا الوحيد المتبقي لأتكلم نيابة عنه." هارون، مثل توني موريسون، يروي ذاكرة المتضررين ممن لم يعودوا موجودين، أو ممن لم يسمع أحد صوتهم.

كان لموسى أيضاً أم، كما يخبرنا هارون، في حين أن ألبير كامو لا يتحدث إلا عن أم مورسو. وكان لديه أخ- هو نفسه الذي افتقده، وأثقلته عزلة الأم المشغولة بالحزن على ابنها الأكبر. لن تفيد عمليات الانتقال من المنزل في شيء: سيظل موت الأخ يحوم بظلاله في أفق هارون الصغير، الملقب بـ "ابن الأرملة"، قابيل المفجوع، والمسؤول والمذنب لأنه استمر في العيش.

"لا يزال الناس يتحدثون عن ذلك، لكنهم لا يتحدثون سوى عن قتيل واحد - من دون خجل، كما ترى، بينما كان هناك قتيلان. " يذكرنا تمرد الراوي بتمرد أنتيغون، التي جن جنونها لعدم قدرتها على دفن شقيقيها على قدم المساواة. شعر هارون بالغضب من هذه الذاكرة الانتقائية. يتحرك حركة مفاجئة: على الرغم منه، يلمح إلى مورسو ويتحمل وطأة جريمته: "بطلك هو الذي قتل، وأنا الذي يشعر بالذنب، وأنا الذي حكم على بالتيه..."، هكذا يخاطب كامو. وكالمجرم، ينتهي به الأمر إلى الشعور باللامبالاة والفتور - حتى تجاه تلك التي تمثل "نصف العالم"، الأم، ماما، ماما، سواء كانت حية أو ميتة: "نعم، اليوم، ماما لا تزال على قيد الحياة وهذا يتركني غير مبالٍ تمامًا."

"كان القمر ينظر هو الآخر؛ وبدت السماء بأكملها كالقمر." ارتكب مرسو الفعل الأبدي تحت شمس حارقة. وسيقرر هارون، مع القمر كصديق، تكرار الفعل نفسه. تحت تأثير أمه التي تدفعه إلى الجريمة للانتقام من وفاة ابنها المقتول، يضغط هارون على الزناد ويطلق النار مرتين على فرنسي. "في النهاية، شعرت بالراحة، والهدوء، والحرية في جسدي الذي توقف أخيرًا عن أن يكون منذورا للقتل." يقتل هارون في الساعة الثانية صباحًا، لـ "تزامنها مع التوقيت الذي فيه اُغتيل موسى" الذي وقع في الساعة الثانية بعد الظهر. كانت طلقات هارون تبدو وكأنها "اطلاقتا نار قصيرتان على باب الخلاص"، بينما كانت الطلقات التي أطلقها مرسو "كأربع ضربات قصيرة طرقت باب الشقاء."

ألقي القبض عليه بعد خمسة أيام من جريمة القتل، واستجوب ثم أطلق سراحه دون أي شكل من أشكال المحاكمة. ومثل رواية "الغريب"، تنتهي القصة بلقاء مع الله. من هذه الصفحات الخمس الأخيرة، التي كانت بالنسبة لداوود أكثر الصفحات تأثيرًا في رواية ألبير كامو، يرسم المؤلف مواجهة بين هارون وأحد الأئمة. يرفض هارون، مثل مورسو، دعاء ممثل الذات الإلهية ويعبّر عن أمنية واحدة، هي نفسها التي كان يتمنّاها نظيره: "أنا أيضًا أودّ أن يكون المتفرجون عليّ كثيرون وأن تكون كراهيتهم وحشية."


كسر الأغلال الجماعية

يكمن في قلب رواية "مورسو، تحقيق مضاد" سوء فهم رهيب، وممنوع منعا قاسيا: الاستعمار. " وأنا أقول إن المسافة بين الاستعمار والحضارة لا متناهية"، هكذا ندد إيمي سيزير في كتابه "خطاب حول الاستعمار". لقد قدّم الشاعر والسياسي الفرنسي من المارتينيك، وكان من أشد المناهضين للاستعمار، نقدًا لاذعًا للاستعمار الأوروبي في هذا النص الذي نُشر في 7 يونيو / حزيران عام 1950. فالرجل الذي كرس عمله لرفض صورة الرجل الأسود الناتجة عن الاستيعاب الثقافي، والنضال من أجل التحرر من خلال "نفي الإنسان الأسود“، كان قد أعرب عن أسفه لأن العمل الحضاري قد أدى إلى مشروع هيمنة كان في الأساس ذا مستويين. ولخص ذلك بقوله: "المُسْتَعْمَر هو الذي يريد أن يتقدم إلى الأمام، والمستعمِر- المُحْتَلّ- هو الذي يتراجع“. أما العجوز هارون، فقد عبّر عن ذلك بقوله: "عندما يهرب المستعمرون، غالبًا ما يتركون لنا ثلاثة أشياء: العظام والطرقات والكلمات - أو 

موتى...“.

لقد أدرك آدم سميث أن إنكار الإرادة الحرة للرجال والنساء من أجل وضعهم تحت نير إمبراطورية لا يمكن أن يؤتي ثمارًا دائمة. إن حق الشعوب في تقرير المصير، المنصوص عليه في القانون الدولي، هو دافع عميق: "إن قضية الشعب الجزائري الذي يساهم مساهمة حاسمة في تدمير النظام الاستعماري، هي قضية كل الأحرار“، كما جاء في "بيان 121" الذي نشر في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1960 في مجلة "الحقيقة - الحرية" ووقعه جان بول سارتر وميشيل ليريس ومارغريت دوراس وسيمون دي بوفوار وغيرهم. في الجزائر، لم يكن للوضع غير المتكافئ الذي فُرض على أولئك الذين يشكلون 90 بالمئة من السكان سوى نتائج مأساوية. كانت حرب الجزائر، التي أنذرت بها ثورة 8 مايو/ حزيران 1945، تلك النتيجة الدموية. 

فبالإضافة إلى الـ 500,000 شخص الذين قتلوا في القتال، كان هناك مليون فلاح مشرد ومليونان ذوي الأقدام السوداء (1) الذين اختاروا الحقيبة على النعش واستقبلتهم فرنسا بإجراءات موجزة - تمامًا مثل الحركيين(2) الذين غادروا الجزائر على أمل خائب في الحماية الفرنسية.

إلى هذه الحصيلة العددية، ينضاف محظور مخجل، بعدم الرغبة في الاعتراف بالحقيقة المؤلمة.: فقد اضطررنا إلى الانتظار حتى العاشر من يونيو/ حزيران عام 1999 حتى تعترف الجمعية الوطنية الفرنسية بأن "الأحداث" في الجزائر لم تكن عمليات من أعمال "التهدئة" ولا "حفظ للنظام" - بل كانت حربًا حقيقية، حربًا مؤلمة أدت إلى فتح باب عمل بطيء لإعادة البناء والتذكير، بين الحنين والكراهية والصفحة البيضاء.

يقول المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا إنه من الصعب التحرر من تسييس الذاكرة، ومن الصعب رفض الانحياز إلى جانب سياسي، كما فعل كامو متمسكًا بالجانب الإنساني ومدينًا العنف والإرهاب بعبارة قوية، للأسف غالبا ما تُبتر وتُشوه، ويجب أن نتذكر صياغتها الأصلية: "في هذه اللحظة، تُلقى القنابل على  ترامات الجزائر العاصمة. قد تكون أمي في أحد هذه الترامات. إذا كان هذا

هو العدل، فأنا أفضل أمي."

إن رفض الصورة الكاريكاتيرية، والتردد بين الاحتمالات، يزعج النفوس الأكثر تطرفًا، والأكثر حماسة. لكن الشك، بقوته وهشاشته، هو سمة إنسانية قوية. إنه الضمان لحريّة الفكر. يشترك مورسو وهارون في الوعي بعبثية وجودهما، وفي القطيعة مع مواطنيهما. إنهما مزعجان. لا يلتزم مورسو بأي من المبادئ التي تحكم المجتمع: أعزب، بلا أبوين منذ وفاة والدته، لا يهتم بعمله، وملحد، قادر على قتل رجل، لكنه غير قادر على الصلاة من أجل خلاصه.

يشدد بطل رواية داود على الإحراج الذي يسببه لمواطنيه بمجرد رفضه اتخاذ موقف واضح لصالح أحد الطرفين المتصارعين على بلاده. يقول: "لم أكن متعاونًا مع المستعمرين وهذا معروف للجميع في القرية، لكنني لم أكن مجاهدًا أيضًا وهذا ما أزعج الكثيرين، فجلوسي هنا في المنتصف، في هذا الوسط، وكأنني أستلقي لأخذ قيلولة على الشاطئ، كان يزعجهم".

إن غياب النزعة المانوية هو بالضبط ما يحدد هوية الراوي - الذي يؤكد على عبثية التعريف الثنائي الذي يضع الفرنسيين في مواجهة العرب في بلد هو نفسه متعدد الثقافات. "هناك أغنية قديمة هنا تقول إن "الجعة عربية والويسكي غربي". هذا ليس صحيحاً بالطبع. غالبًا ما أصححها عندما أكون وحدي: هذه الأغنية وهرانية، الجعة عربية، الويسكي أوروبي، والسقاة قبائليون، والشوارع فرنسية، والأروقة إسبانية قديمة.. لا نهاية لذلك". إن الحرية، كما نعلم، لا تحتمل الحواجز. مثلها مثل اللغة الفرنسية التي يستخدمها كامل داوود لـ "تحرير هذه اللغة، إن نتحرر منها وفيها ". إنها لأسمى تحية للحرية بهذه الكلمات.


استعادة الحرية من دون بوصلة

قبل أن يكتب الروايات، نشر كمال داود مقالات رأي، وخاصة في جريدة "الكوديتيان دوران" – صحيفة وهران اليومية- التي كان رئيس تحريرها لمدة عشر سنوات تقريبًا. ولا يزال ينشر مقالات رأي، مما يسعد قرائه المتابعين ويثير انتقادات خصومه، ويتحدث فيها عن العالم العربي، والسخط الزائف تجاه فلسطين، والحرية أو غيابها. واحدة من مقالاته تلفتت الانتباه على نحو خاص، حيث يروي قصة خيالية عن "عربي بلا أقدام". يقول: "العالم العربي هو محطة حافلات توقفت عندها الحافلات والتاريخ. كيف يعيش المرء في محطة؟ [...] العربي يعود إلى منزله ليجد نفسه في عالم لم يعد ملكه. على عتبة الباب، ينظر إلى زوجته التي تنظر إلى أطفالها الذين يشاهدون قناة الجزيرة. حتى أنهم لم يعودوا يملكون أقدامًا مثله. كل ما تبقى لهم هو آخر زوج من الأحذية". أن تمشي يعني أن تكون حراً. والرجل بلا أقدام هو الصورة المدهشة والقمعية للامبالاة والعجز والمصير الذي يفلت، ولمستقبل لم يعد من الممكن الوصول إليه.

إن اللامعقول. كما هو الحال عند صموئيل بيكيت، يتسرب إلى رواية داود. "إنهم بالآلاف، صدقني. يجرون أقدامهم منذ الاستقلال. يتجولون على الشواطئ بلا هدف، ويدفنون أمهاتهم المتوفيات، وينظرون إلى الخارج لساعات من شرفاتهم." بعيدًا عن الاحتفاء بالجزائر الحرة، التي انعتقت أخيرًا من الوصاية الاستعمارية، يؤكد الكاتب على الجمود الذي يعاني منه المواطنون المرتبكون. "اللامعقول، هو أنا وأخي نحمله على ظهورنا أو في بطون أرضنا، وليس الآخرون"، يجر هارون حسرة.

تكشف رواية "مورسو، تحقيق مضاد" عن جزائر ما بعد الاستعمار المليئة بالمفارقات التي ولدت من رحم الاستقلال المؤلم – "أنا، هل أشعر بالحنين إلى الجزائر الفرنسية؟ لا، أنت لم تفهم شيئًا. أردت فقط أن أخبرك أنه في ذلك الوقت كنا نحن العرب نعطي الانطباع بأننا ننتظر، ولا ندور في حلقة مفرغة كما هو الحال اليوم“. وبصفته غريبًا جديدًا، يحلل هارون، تاريخ وطنه بأثر رجعي، ويحذر من الانحرافات القومية والعنف الشديد الذي يستخدمه في هذه الانحرافات. "كان الوحش الذي يتغذى على سبع سنوات من الحرب أصبح شرهًا ويرفض   العودة إلى جحره."

قبل أن تصبح روايته الأولى، ولدت رواية "مورسو، تحقيق مضاد" من مقالة رأي لكامل داوود بعنوان "36 مليون مورسو"، في إشارة إلى الجزائريين، كردة فعل على زيارة السيناتور جان بيير شوفينمان إلى الجزائر عام 2010، والذي تساءل عما إذا كان كامو ينتمي إلى الجزائر أم إلى فرنسا. يشير داوود إلى أن جميع الجزائريين هم مورسو مذنبون بموتهم بسبب جمودهم. ومثلهم مثل مورسو "لديهم العلاقة المرضية نفسها بالواقع، كما لو كانوا يعيشون في نوع من الكون المشوه". والتاريخ يعيد نفسه بلا كلل: "إن العالم كله يشهد إلى الأبد على جريمة القتل نفسها في وضح النهار". بعد مأساة حرب الجزائر، أعقبتها الحرب الأهلية في التسعينيات. فأي عبثية أعظم من زمن يذوب كالساعة تحت 

الشمس؟"

تكشف خاتمة الروايتين بوضوح عن هذا اليأس الشديد. يرفض مرسو السماح للقس بالصلاة من أجله، ويرفض هارون مساعدة الإمام. يقول هارون: "الدين بالنسبة لي هو وسيلة نقل جماعية لا أستخدمها. أحب أن أذهب إلى هذا الإله سيراً على الأقدام إذا اضطررت إلى ذلك، ولكن ليس في رحلة منظمة"، ويحذر وهو الذي يحلم بـ "الصراخ بأنني حر وأن الله سؤال وليس جوابا، وأنني أريد أن ألقاه كما ولدت وحدي وأموت وحدي". لكن هارون يتساءل: "كيف أقول هذا للبشرية وأنت لا تستطيع أن تكتب الكتب؟" فمن لا يعرف كيف يكتب، كالذي لا يعرف كيف يقرأ سوى كتاب واحد، ويصبح فريسة للمعترضين على الضمير والمتلاعبين بالفكر، من هذه الكتب التي يبثها أصحاب الهويات الخبيثة في السجون، أو بين الحساء والبطانية في الليل.

دعونا لا نخطئ في فهمه. كمال داوود لا يتحدث إلينا عن الجزائر فحسب، بل يقدم لنا، من خلال واقع بلاده، بيانًا عن الوضع الإنساني وبالدرجة الأولى عن الحرية. غالبًا ما نود أن نرى أعمال المؤلفين الأجانب الناطقين بالفرنسية على أنها بالضرورة سياسية ومناهضة للاستعمار. وهذا يعني إنكار البعد العالمي لأعمالهم.. يقول داوود: "أعتقد أننا بحاجة إلى شيء لانهائي، هائل، لموازنة حالتنا كبشر". إن الأدب ضد كل النزعة الأخلاقية الجماعية واللاأخلاقية الفردية، أن نقرأ فلنسترد ضميرا سليما ونستعيد أقدامنا مرة أخرى.


هوامش المترجم

(1) الأقدام السوداء (Pieds-Noirs)‏ تسمية أطلقتها السلطات الفرنسية على المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا أو ولدوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 - 1962) والذين رفضوا البقاء في الجزائر غداة استقلالها في 5 يوليو/ تموز عام 1962، وقدر عددهم بـ مليون نسمة مثلوا أكثر من 12بالمئة من سكان الجزائر آنذاك، وقد بدأوا بالمغادرة عند بداية الاستفتاء وقبل إعلان الاستقلال رسميا.

(2) الحركيون ( Harkis)‏ الكلمة مشتقة من العربية، وهم نوعان: الفئة الأولى وهم من الجزائريين الذين كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية 1 نوفمبر/  تشرين الثاني 1954- 5 يوليو/ تموز 1962 استعملتهم فرنسا من أجل قمع المجاهدين الجزائريين والتجسس عليهم، حيث عند انطلاق الثورة التحررية كانوا ملزمين بإتمام الخدمة الوطنية في الجيش الفرنسي، والفئة الثانية هم مجموعة من الجزائريين اختاروا الانضمام إلى الجيش الفرنسي طواعية، أي دون إكراه وكان معظمهم قد شارك في الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو حرب الهند الصينية إلى جانب فرنسا.