الوراقة في العصر العباسي .. 100 حانوت للعلم والمعرفة

منصة 2024/11/14
...

 إعداد: حسن جوان  


تمتعت الوراقة بازدهار كبير في القرن الرابع الهجري، بسبب كثرة ما نُقل ونسخ فيه من الكتب والمؤلفات، إلى جانب جودة النسخ والتصحيح والعناية بهما في ذلك العصر. وبلغ عدد حوانيت الوراقين في بغداد في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" أكثر من مئة حانوت، بل إن أسواقًا كاملة ببغداد تخصصت في الوراقة. وتحولت دكاكين الوراقين إلى مراكز للثقافة وملتقيات للعلماء والأدباء وأهل المعرفة، وأفضى ذلك ايضاً إلى استعانة دور الكتب العامة بالوراقين، بل كان هؤلاء جزءًا مهمًا من هيكل تلك الدور التنظيمي والعلمي، كما كان الحال في بيت الحكمة ببغداد.


صناعة وتطوير

تعرَف الوراقة بأنها العملية التي تهدف إلى نسخ الكتب والعمل على تصحيحها وإعادة نشرها لتكون في متناول اليد لمن يرغب بالإطلاع عليها، ومن يقوم بهذه المهمة يطلق عليه الورّاق، أو النساخ، كما تتضمن مهنة الوراقة عملية تجليد وتذهيب الكتب، وبيع الورق والأقلام والأحبار والدواة وهو ما يقابل عمل المطابع ودور النشر ومتاجر القرطاسية حالياً. تجدر الإشارة إلى أن مهنة الوراقة في بغداد كانت قد شهدت نقلة نوعية وغير مسبوقة في عهد الخليفة هارون الرشيد عندما أمر الوزير يحيى البرمكي بإنشاء مصنع لصناعة الورق في بغداد، وهو الأمر الذي سهل على الوراقين العمل بعد أن كانوا يستخدمون الجلود وأوراق البردي. وتذكر بعض المصادر ان أول كتاب طبع على الورق كان عام 707هـ في عهد الخليفة المنصور، الذي كان قد أصدر أمراً بإنشاء دار الحكمة حيث ضمت آلاف الكتب والمطبوعات والمخطوطات. 


نهضة ثقافيَّة

ساهمت حركة التأليف والنشر والترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في ازدهار مهنة الوراقة، من خلال الطلب فيها على الوراقين، والحاجة لنقل هذه العلوم والمعارف التي تمت ترجمتها على أوسع نطاق، الأمر الذي انعكس على مجموعة الكتب والمصنفات التي حرصت الدولة على تواجدها في جميع المكتبات ودور العلم. 

ولعل من بين هذه الأسباب التي أدت الى هذه النهضة هو انتقال اكتشاف الورق والعمل على تصنيعه، إذ كان لعملية اختراع الورق وصناعته واستخدامه كمادة أساسية في الكتابة، أثر كبير في ازدهار مهنة الوراقة، خاصة بعد أن جربوا صعوبة العمل على أوراق البردي والجلود، كما أن إنشاء مصنع للورق في مدينة بغداد وتوفيره للموادة الخام للوراقين أثر غاية في الأهمية بالنسبة لهم. كما أدى افتتاح العديد من المدارس في بغداد الى توسع الحركة الفكرية والثقافية في بغداد أن أزدات المدارس بسبب زيادة طلاب العلم من الدارسين، والمعلمين في مختلف التخصصات والعلوم، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الطلب على الكتب والمراجع المكتوبة، وهو الأمر الذي انعكس على عمل الوراقة والنساخين، إذا بدؤوا العمل ليلا ونهارا لمواكبة زيادة الطلبات تلك. وايضاً بناء المكتبات العامة والخاصة حيث كان التوجه العام في الدولة العباسية خلال العصر الأول يهدف إلى رعاية العلم والعلماء وتوفير لهم جميع السبل التي تجعلهم يبدعون في مجال الفكر والعلم، ولعل من أهم من تلك الأمور سعي الدولة إلى تأسيس العديد من المكتبات العامة التي كانت الدولة تضمن فيها مختلف أنواع الكتب وفي مختلف مجالات العلوم والمعرفة. ومن أشهرها مكتبة الخليفة هارون الرشيد التي تم تشييدها عام 170هـ، وخلفه المأمون، ولاحقاً.. مكتبة الأمير عضد الدولة البويهي التي يبدو أنها من المكتبات الضخمة حيث احتوت الكثير من المخطوطات، فلم يكن يصدر كتاب في أي مكان في العالم إلا وحرص أولي الأمر على أن يكون موجوداً فيها. بالإضافة إلى هذه المكتبات هنالك المكتبات الخاصة التي تولى العلماء والأدباء والفقهاء تأسيسها حباً منهم في العلم والتعليم، ويبدو أنها من الكثرة بمكان بحيث يصعب على المؤرخين حصرها وتعدادها، إذا تولى كل واحد من هؤلاء إنشاءها في بيته أو في مكان عمله، لتساعد طلاب العلم في الحصول على ما يرغبون به من كتب ومراجع.


بواكيرها 

يتحدث الدكتور يحيى وهيب الجبوري في ''الكتاب في الحضارة الإسلامية'' عن أنّ حِرفَة الوراقة قد ازدهرت في المدن الكبرى، وبلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانت سبباً من أسباب ازدهار حركة التأليف والنشر والترجمة، وقد أضحت صورة مُشرقة بهيّة من صور الحضارة العباسية في قمّة عطائها، وقد مثلت الوراقة كلّ أنواع النشاط العقلي والفكري في العلوم العربية والإسلامية، وفي العلوم المنقولة ـ المُترجمة ـ عن الأمم الأخرى كاليونان والرومان. أما عن البدايات الأولى للوراقة فقد كانت مُتصلة ببيع الورق والأقلام وأنواع الحبر والمداد، وكلّ ما له صلة بالكتابة، وكان أول ما عُرِفَ من النسخ هو نسخُ المصاحف الشريفة لكتاب الله الكريم، وكان الصحابة الكرام، والتابعون ينسخون المصاحف لأنفسهم، ثم صار الناس ينسخون لغيرهم، بعدها تجاوز ذلك على كتابة الحديث وسائر العلوم الدينية والتاريخية واللغوية والأدبية.


أبرز الأسماء

 وأقدم ما عرفنا من الورّاقين الذين كانوا ينسخون بالأجرة هو خالد بن أبي الهيّاج، الذي كان يُوصف بحُسن الخطّ، وقد اختصّ بكتابة المصاحف والشِعْر. وفي  رواية ابن النديم أنّ وراقة المصاحف الشريفة كانت سابقة على وراقة الكتب في مختلف العلوم، وقد عُرِفَ من كُتّاب المصاحف المشهورين أمثال، خشنام البصريّ، ومهدي الكوفي، وانا أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد.

 وكان من كبار النساخين وحذّاقهم، أبو خميرة، وأبو الفرج. كما كان من الورّاقين مُذَهبَّون للمصاحف الشريفة ومُجلدون، برعوا في تجليدها وتذهيبها، فمن المُذهِّبين، اليقطيني، وإبراهيم الصغير، وأبو موسى بن عمّار، وابن السقطي، وأبو عبدالله الخزيمي، وابنه. ومن المجلدين نذكر، ابن أبي الحريش، وكان يُجلِّد في خزانة ''بيت الحكمة'' للخليفة المأمون بن هارون الرشيد في بغداد، وهناك شفة المقراض العجيفي، وأبو عبس بن شيران، ودميانة الأعسر، وابن الجمام إبراهيم، وابنه محمّد والحسين بن الصفّار.

شارع الثقافة

 وكان الورّاقون عادة يفتحون دكاكينهم أمام الجوامع والمدارس، وكانت هذه الدكاكين كثيراً ما تتمركز في شوارع خاصة حيث تكون حركة المارة على أشدها. إلاّ أنّ هذه الدكاكين لم تكن مقصورة فقط على بيع الكتب. فهناك كان يجتمع المثقفون وأولئك الذين يريدون أن يصبحوا مثقفين كما كانت تناقش الموضوعات المختلفة وتنشد الأشعار وهكذا وعلى الرغم من هذا فقد كان الدور المهم لهذه الدكاكين، بالإضافة إلى بيع الكتب، يكمن في نشر المعلومات حول المؤلفات الجديدة والكتب المتاحة. ففي رحلة الازدهار الكبير لإنتاج الكتاب في هذه المدينة وصل عدد دكاكين الوراقين إلى العشرات. ومن بغداد كانت الكتب سرعان ما تجد طريقها إلى أبعد المدن في العالم الإسلامي. وعلى ظهور الجمال كانت القوافل تحمل الكتب من بغداد إلى البلدان، وقد كانت الكتب التي ينسخها الخطاطون المعروفون، أو التي يكتبها المؤلفون أنفسهم غالية جداً ولم يكن في استطاعة أحد أن يقتنيها سوى الأغنياء. وعلى سبيل المثال يكفي أن نذكر أن ثمن كتاب المؤرخ الطبري (839 ـ 923م)، كما يذكر المقريزي، كان يصل ثمنه إلى مائة دينار. وكان هذا المبلغ بالنسبة لذلك الوقت ثمناً مرتفعاً، إذ إنّ الكتاب المتوسط كان يباع بدينار أو دينارين. وحتى هذا يبدو ثمناً مرتفعاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الأجرة السنوية لحانوت عام  كانت لا تتعدى الدينار. أما أولئك الذين يملكون هذه الإمكانية فقد كانوا ينسخون المؤلفات بأنفسهم أو يعطونها إلى خطاطين مغمورين لكي ينسخوها.