توطين الصناعة الدوائيَّة.. ثورة صحيَّة واقتصاديَّة في الأفق

ريبورتاج 2024/11/18
...





  بغداد : حسن جوان وسجى عماد

في مشهد يعكس الواقع الذي يعيشه الكثير من المرضى، تقف (سعاد محسن) في الصيدلية، ممسكةً بأحد الأدوية المنتجة محلياً، وتنظر إليها بعينٍ مليئة بالتساؤلات. تبدو مترددة، فهي تعرف أن الأدوية المستوردة قد تحمل سمعة أفضل، لكن في الوقت نفسه، تشعر بثقل الأسعار المتزايدة والتي قد لا تكون قادرة على تحملها.

وفي الجانب الآخر من شارع الكندي في بغداد، حيث تحولت المنطقة إلى مجمع طبي ضخم، تحدث (أحمد علي)، عن معاناته في الحصول على دواء وصفه له الطبيب، قائلاً: "منذ أكثر من نصف ساعة، وأنا أبحث عن هذا الدواء، متنقلاً من صيدلية إلى صيدلية، دون جدوى".



وأضاف لـ "الصباح"، "يبدو أن هذا المنتج فقد من السوق منذ فترة، ما اضطر أصحاب الصيدليات إلى استيراد الدواء نفسه، لكن لشركة مختلفة ومن منشأ آخر، لا يتوافق مع ما كتبه لي الطبيب".

بينما يسير المواطن في تلك الدائرة من الشكوك، يتبادر إلى الذهن سؤال شائع: هل الأدوية المصنعة محلياً، والتي ارتفعت نسبتها إلى 30 بالمئة من الحاجة المحلية، فعّالة كما الأدوية المستوردة؟ وما هي الجدوى الاقتصادية التي يمكن أن يحققها مشروع توطين الصناعة الدوائية الذي تبنته الحكومة؟.


جودة الدواء

الطبيب الاختصاص أحمد نعمة يجيب عن التساؤلات حول فاعلية الدواء المصنع محلياً، قائلاً: "الأدوية المحلية والأجنبية تخضع للضوابط نفسها، والمعايير في وزارة الصحة، حيث يتم فحصها كيميائياً وفيزيائياً لضمان فعاليتها وجودتها".

وأكد أن "الأدوية، سواء كانت محلية أو مستوردة، لا تختلف في النتائج التي تحققها طالما تم فحصها وفقاً للبروتوكولات العالمية".

لكن نعمة يشير إلى أن المشكلة تكمن في الأدوية المهربة وغير المفحوصة، التي لا تخضع لإجراءات الرقابة والفحص، ما قد يشكل خطراً على صحة المرضى.

كما أشار إلى "أن العراق مقبل على تأمين معظم الأدوية من خلال زيادة عدد المصانع الوطنية التي في طور الإنشاء، ما سيسهم في تحسين القدرة الإنتاجية وتلبية احتياجات السوق المحلية".


احتكار الأدوية

الصيدلاني الدكتور هواري مدين، يوضح أن "مشكلة انقطاع الأدوية في السوق، تحدث عادة بسبب احتكار بعض المذاخر أو المكاتب الدوائية لمنتجات معينة، الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً في توفير الأدوية بشكل مستمر للمواطنين".

وفي حديثه لـ"الصباح"، شدد مدين على أن "وجود رقابة فعالة على أسعار الأدوية من شأنه أن يسهم في تقليل التكلفة ويجنبنا مشكلة انقطاع الأدوية. كما أن تسعير الأدوية بشكل عادل يساعد في حماية المواطن من الغش واستغلاله"، مؤكداً أن توطين صناعة الأدوية في العراق سيكون له تأثير إيجابي في خفض أسعار الأدوية المستوردة، والتي تعد مكلفة بشكل كبير على المواطنين. كما أن الإنتاج المحلي يمكن أن يسهم في توفير الأدوية بشكل أكثر استدامة".

تكامل وتكافؤ

ترى الصيدلانية د. إيناس موسى من وجهة نظر مقابلة أن الطريق إلى التكافؤ الدوائي هو مسعى قائم ضمن شروط علمية صارمة، ولكن لا يمنع ذلك من السعي بهذا الاتجاه نحو توطين الدواء.

وتؤكد موسى في حديثها لـ "الصباح" أن "التكافؤ الدوائي بين المنتج المحلي والمستورد لم يتحقق، إذ إن أكثر المواد المصنعة محلياً لا تماثل نظيراتها الأجنبية والتي يتم استيرادها حالياً".

 وبشأن موضوع الاكتفاء الدوائي، نفت الدكتورة إيناس إمكانية تحقق ذلك واقعياً، مشيرة إلى أن "أي دولة في العالم اليوم لا يمكنها تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية بنسبة 100 بالمئة، لكونها أدوية محتكرة اخترعتها شركات تشخص المرض أو الحالة غير القابلة للعلاج، وتستغرق في ذلك سنوات عدة"، مضيفة أنه "في الحالة العراقية نقول إن ما نحققه بنسبة 70 بالمئة يعد اكتفاء ذاتياً ممتازاً، بينما يتبقى 30 بالمئة على عاتق الشركات الدوائية الكبرى المتخصصة".


الجدوى الاقتصاديَّة

إضافة إلى دوره في تنشيط القطاع الخاص، وضمان توفر أدوية مطابقة للمواصفات العالمية وبأسعار أقل، فإن مشروع توطين الدواء يسهم في تقليل الاعتماد على الاستيراد، وبالتالي يوفر العملة الصعبة التي تكلف خزينة الدولة مليارات الدولارات سنوياً.

وفي هذا الصدد، تقول الخبيرة الاقتصادية، إكرام عبد العزيز: "يعد العراق من أكبر مستوردي الأدوية في المنطقة، وهو بذلك يواجه مشكلة كبيرة في استيراد الأدوية، لا سيما في موضوع استنزاف العملة الصعبة".

وأضافت عبد العزيز في تصريح لـ"الصباح"، قائلة: "من خلال توطين صناعة الأدوية في العراق، يمكن تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتوفير العملة الصعبة، مقابل تحفيز الاقتصاد المحلي، من خلال استخدام الموارد المحلية من حيث رأس المال البشري والخبرات العلمية والبنى التحتية المتاحة".

كما أن مثل هذا المشروع ـ والحديث للسيدة إكرام- يوفر فرصاً كبيرة لتوظيف الكفاءات المحلية، وتطوير مهارات العمالة الوطنية، واستخدام التقنيات الحديثة في الصناعة"، مشيرة إلى أن الحكومة بحاجة إلى تعزيز بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمارات في القطاع الدوائي، بما يمكنها من جذب الشركات الأجنبية للاستثمار من خلال شراكات استراتيجية تسهم في نقل التكنولوجيا والخبرات.


مشاريع واعدة

تحقيق الأمن الدوائي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، إضافة إلى تحفيز الاقتصاد المحلي، أسباب دفعت الحكومة إلى تبني مشروع توطين الصناعة الدوائية.

وفي حديثه لـ "الصباح"، يقول مستشار رئيس مجلس الوزراء لشؤون الصناعة، الدكتور حمودي اللامي: إن رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، اتخذ قراره بتوطين الصناعة الدوائية، منذ الأسبوع الأول لتشكيل الحكومة، بهدف زيادة نسبة تغطية الأدوية محلياً من 10 إلى 30 بالمئة.

وبين أن هذه السياسة تهدف بالدرجة الأساس، إلى حماية المواطن من الأدوية المغشوشة أو الرديئة، وتوفير مبالغ مالية ضخمة بالعملة الصعبة، حيث يستورد العراق ما يصل إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً من الأدوية، معرباً عن توقعه بأن يزيد الإنتاج المحلي للأدوية بشكل ملحوظ، ما سيسهم في توفير مئات الملايين من الدولارات التي كانت تُنفق على الاستيراد.

ومع زيادة الإنتاج المحلي، يؤكد اللامي أن "عدد الأدوية المنتجة محلياً سيرتفع، وبالتالي يقل الاعتماد على الأدوية المستوردة، التي غالباً ما تكون غالية الثمن"، مؤكداً أن الأدوية المنتجة محلياً سيكون سعرها أقل بنسبة قد تصل إلى 25% مقارنة بالأدوية المستوردة.

وبشأن الدعم المقدم لإنجاح المشروع، نوه اللامي بأن الحكومة اتخذت جملة من الإجراءات من أجل تحقيق الهدف من توطين الصناعة الدوائية، ومنها خفض الرسوم الجمركية على خطوط الإنتاج والمواد الأولية إلى 0.5 بالمئة، بعد أن كانت 7 بالمئة، مع تقديم تسهيلات إضافية لقطاع صناعة الأدوية المحلية.

وأكد مستشار شؤون الصناعة الدوائية، أن الحكومة تستعين بالمختبرات المتطورة في المركز الوطني للرقابة الدوائية، الذي يتبع معايير رقابة صارمة، معتمدة على الدساتير الدوائية الأميركية والبريطانية، والذي يقوم أيضاً بسحب نماذج عشوائية من السوق لفحصها من أجل ضمان الجودة.

وفي ما يخص التحديات التي تواجه تحقيق الأمن الدوائي، أوضح اللامي أن الأدوية التي تدخل البلد بطريقة غير قانونية، تشكل أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومة، حيث يزداد خطر انتشار الأدوية المغشوشة أو الرديئة.

وتابع: "الحل في ذلك هو تعزيز الرقابة ومنع دخول هذه الأدوية عبر المنافذ غير القانونية، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والهيئات المعنية"، مشيراً في هذا الموضوع إلى أنه تم تشكيل لجنة مختصة برئاسة وزير الصحة والجهات الحكومية والأمنية ذات العلاقة، لمكافحة هذه الظاهرة.


وزارة الصحة

المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور سيف البدر، أشار من جانبه، إلى التسهيلات التي تقدمها الوزارة لإنجاح مشروع توطين الدواء، إضافة إلى دورها في تدقيق التراخيص الممنوحة لإقامة المشاريع وفقاً للمعايير القانونية.

وفي حديثه لـ "الصباح" قال البدر: "توطين الصناعات بشكل عام هو من أولويات عمل الحكومة. وعملنا في وزارة الصحة يتلخص بتوطين الصناعة الدوائية، الذي يمثل أولوية في عمل الوزارة والحكومة".

وأشار إلى أن هناك إجراءات عدة أسهمت في دعم وتطوير الصناعة الدوائية بدأت مع بدء عمل الحكومة، وتبلورت على شكل حزمة من القرارات من خلال مجلس الوزراء، الذي أقر تسهيل الموافقات لإنشاء المصانع، وأيضاً دعم بعض التفاصيل المالية والمحاسبية والتقنية، التي أسهمت في تشجيع الصناعة المحلية، الأمر الذي انعكس فعلاً على تطوير ما موجود من مصانع دوائية سواء كانت حكومية أو عائدة للقطاع الخاص، والتي أثمرت في بواكير عملها عن استحداث عدد غير قليل من الأدوية.