حبيب السامر
في رحلة البحث عن الشّاي الأحمر قرب محطة "برشلونة"، والتوغّل كثيرا في أزقّةٍ وشوارعَ ضيّقةٍ، نسأل عن هذا المنبّه الأسود الذي اعتاد عليه أغلب أبناء مدينتي والمدن الأخرى كي يعدّلوا من مزاجهم الصّباحي، إذ لم تخلُ أية مائدة منه في هذا الطّقس المحبّب لنا جميعا.
كلّما ولجنا عمقَ الأزقّة المنحوتة بعجائب الطّبيعة ومهارة النّقّاشين والصّبّاغين بالطّلاء الأبيض والنّقوش البارزة والمخسوفة في هذه البنايات العالية، هذه الرّحلة الغريبة وأنت تُمضي وقتك كي تصل إلى مبتغاك. قال صديقنا التّونسي وهو يحدّثنا عن القطط وكيفيّة تربيتها، كان يغرق في حديثه عن ولادات شهدها بنفسه، وأحيانا يقوم بدور القابلة لسحب القطط الصّغيرة ووضعها على قماشة قديمة، وهو ينظر في عينيْ القطّة الأمّ وهي تراقب المشهد الإنسانيّ لهذا الرّجل بهيئة "ايكاروس". حقيقة أبهرني هذا الرّجل وهو يقوم بتقديم الطّعام إلى أكثر من عشرين قطّا "منها خمس قطط يربّيها في المنزل"، وأحيانا يقوم بزجر قطّ خرج عن طاعته، وهو يطرق الباب ليلا، وحين يعرّج البابَ بفتحة صغيرة ويلمح قطّه المتمرّد، يزجره وقول له: اذهب "يا كلب"! ينظر القطّ وهو يطلب مغفرة الرّجل وكأنه يريد أن يقول: هل أنا كلب!؟ ويصرّ الرّجل على أنّ القطط كائنات ذكيّة لا ينقصها غير الكلام. نعم، هكذا يروي لنا وهو يغرق في لذّة الحديث، ننظر بحيْرة في عينيْ صديقنا الذي يكاد أن يصرف كلّ مداخيله في شراء أطعمة لكائناته، التي تتمدّد على سريره وتغزو كلّ أمكنة راحته... ونتحسّر...
اعتدنا أن نسمع ونقرأ في مداخل الأنهج والشّوارع الصّغيرة التي تتميّز بحركتها المحدودة وقصر طولها وضيق جوانبها بكلمة "نهج" مثل نهج مرسيليا، نهج الدّباغين، نهج إسبانيا، نهج القاهرة، نهج أنجلترا، نهج روما، نهج أثينا، نهج روسيا، نهج ابن خلدون... أمّا شوارعها الواسعة والطّويلة فتتميّز بحركتها الدّائبة مثل شارع الحرّيّة، شارع محمد الخامس، شارع قرطاج، شارع باريس... والشّارع الأشهر هو شارع الحبيب بورقيبة الذي نجلس قبالته، تتخاطف على جانبيه الأجساد المتسارعة جداً والذي تحاذيه جزرة وسطية تحيطها الأشجار الكبيرة والمعمّرة. يتهامس بعض العشّاق على مصاطبها المتوزّعة بانتظام، وبعض المتعبين من عناء التّجوال والبحث عن أرزّ يشبه "رزّ أحمد"، وشاي مثل شاي أمّهاتنا المخّدر على نار هادئة، وفاصوليا تنعم بلحم ورائحة وطعم ليس مثل تلك التي نتناولها في مطعم الأكلات الصفاقسية في نهج القاهرة، والأغرب جداً حين تدخل مطعما وتتشهّى السّمك تتفاجأ بقائمة المأكولات "حوت... ورقة... قاروص" ينتابك الفضول لتتعرّف على نوع الحوت على مائدتك الصّغيرة وتطلب من الرّجل الذي قدّم لك "المينيو" أن يجلب لك طبق الحوت، وبعد وقت قصير تجد ماعونا مزيّنا بسَلطات متواضعة وعلى جانبها يتمدّد الحوت وهو بحجم الكفّ، هنا تتنوّع تسميات هذا السّمك وقد نطلق عليه "الشانك" ربما، فعلا هي سمكة لا تتعدّى حجم الكفّ الواحد، مسكين هذا الحوت هناك!
تتوزّع بين جانبي شارع الحبيب بو رقيبة المقاهي بتسميات وجلسات متنوعة لجذب الزّبائن، نرتشف القهوة ونتابع حركة المارّة وهي تتعجّل المسير في رحلة شاقّة ومآرب كثيرة ومهامّ عديدة لتصل إلى مبتغاها، هناك يتابع الناس حركة أعمالهم ومتابعة أولادهم، في حين تصمت المدينة بعد الثامنة مساءً، وتكاد أن تخلو من المارّة إلاّ من بعض شباب يمرحون على عتبات المسرح البلديّ قبالة فندق الهناء.
هذه بعض التقاطات دوّنتها في دفتر صغير، أقلبها بين حين وآخر لأجد مادة ترسم لنا معالمَ وعوالمَ جديدةً. هذه هي رسالة الحياة التي تَعلّمنا منها وعلّمتنا كيف لنا أن نضيء بكلماتنا مساحات العتمة وندوّن في الصّفحات بعض شواهد وشهادات لمدن تقدح في ذاكرتنا.