أي لبنان بعد هيروشيما؟

آراء 2024/11/24
...

 نبيه البرجي 

بعد نحو عام اندلعت الحرب الأهلية، ليسقط لبنان داخل البركان. ومنذ ذلك الوقت ليس كما يراه البعض في عنق الزجاجة، بل في فوهة البركان، إلى أن خرج مؤتمر الطائف بوثيقة أسست لدستور الجمهورية الثانية، وقد قضت المادة 95 منه بتشكيل هيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية. لكنه البلد الذي تتقاطع فيه لعبة الأمم مع لعبة الطوائف. من يدري الآن، وطاحونة النار تعمل على مدار الساعة، أين لبنان الآن، وأين سيكون لبنان؟


سؤال استوحيناه من سؤال طرحه ياسوناري كاواباتا، الياباني الحائز نوبل في الآداب، غداة الأهوال التي أحدثتها "قنبلة الصبي الصغير" (Little boy ) في هيروشيما. أي لبنان بعد هيروشيما؟ أكثر بكثير من هيروشيما.

أثناء زيارتي للصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، قال لي "كنت أرى في لبنان بلد الأزمات الأبدية، والتسويات الأبدية. لكنني بدأت استشعر الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أننا في منطقة قيّض لها أن تكون على فوهة البركان، ولا أدري إلى أي مدى يمكن لبلد مثل لبنان يفترض أن يكون واحة العربِ أن يبقى عالقاً بين ليل الأزمات وليل التسويات".

رأى في وثيقة الطائف (1989 ) التي كانت بمثابة نقطة الانطلاق من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، "نصاً تمت صياغته، حتى في بعض نصوصه الملتبسة، باتقان شديد، للانتقال من الدولة الطائفية (أو الطوائفية) إلى الدولة العلمانية. ولكن عليكم، أولاً، أن تخمدوا بقايا النيران التي خلّفتها الحرب الأهلية (1975 ـ 1990 )". 

قاطعته قليلاً لأشير إلى التجربة الاسبانية بعد الحرب الأهلية هناك، حيث تم التوقيع، بين أطراف الصراع، على "ميثاق النسيان" (Pacto del olvido )، لإزالة أي أثر للحرب في الوعي (أو اللاوعي) العام. 

 لفتته الفكرة، وقال "إن الحرب الأهلية هي الحرب اللاأهلية، وبنبغي أن تكون، بالنسبة إليكم والى كل دولة عربية أخرى، الحرب المحرمة". في هذه الأيام أسئلة كثيرة تداخلت مع أجواء الحرب. وهو يودعني قال لي "خذ بالاعتبار أن الجنة ـ حتى ولو كانت على الأرض ـ بحاجة إلى الملائكة لإدارتها"، لأعلّق "لا أتصور أن ذلك سيكون ممكناً".

في صيف 1974، أجريت حديثاً صحافياً مع رجل الدولة اللبناني ريمون ادة، عميد حزب الكتلة الوطنية. قال إن لبنان "حافظ على توازنه ، كدولة مركبة ولدت في قصر فرساي (1919)، وأعلنت في قصر الصنوبر (مقر السفير الفرنسي) عام 1920، لأنه كان بمثابة القطعة المعدنية بين قطبين مغناطيسيين، أحدهما سوريا التي تمثل المدى العربي، واسرائيل التي تمثل المدى الغربي، حتى اذا وقعت حرب حزيران 1967 سقط القطب العربي، ليصبح لبنان عالقاً في الفراغ، وأخشى أن يكون في حال الاقتراب من الانفجار".

بعد نحو عام اندلعت الحرب الأهلية، ليسقط لبنان داخل البركان. ومنذ ذلك الوقت ليس كما يراه البعض في عنق الزجاجة، بل في فوهة البركان، إلى أن خرج مؤتمر الطائف بوثيقة أسست لدستور الجمهورية الثانية، وقد قضت المادة 95 منه بتشكيل هيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية. لكنه البلد الذي تتقاطع فيه لعبة الأمم مع لعبة الطوائف. من يدري الآن، وطاحونة النار تعمل على مدار الساعة، أين لبنان الآن، وأين سيكون لبنان؟

من باريس أن الإسرائيليين كانوا يراهنون على تفجير لبنان من الداخل، لكي يحطموا العمود الفقري للمقاومة. وكانت هناك خطة لدى الموساد لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات الحساسة، وفي ظل تشتت أحد المكونات (في العراق يقال أطياف) الأساسية على امتداد الأرض اللبنانية، اضافة إلى سوريا والعراق، بل وفي اصقاع الدنيا، ما يرفع من احتمالات الانفجار بالصورة التي لا تبقي ولا تذر.

وبحسب المعلومات الفرنسية فإن الإدارة الأميركية، التي تتخوف من انتشار الفوضى الاستراتيجية في المنطقة، بتفاعلاتها الخطيرة والتي قد تفضي إلى اللحظة النووية، ضغطت على بنيامين نتنياهو لتقتصر الحرب على الجانب العسكري دون الاستخباراتي. ومع الرهان على أن تحدث تغييرات دراماتيكية أن في المشهد اللبناني، أو في المسار اللبناني. لمصلحة من ؟ كثيرون يقولون... "لمصلحة الشيطان" !       

هنا نحاول أن نرى الجانب المضيء من الصورة. أكاديمي معروف تحول بيته إلى أنقاض قال لنا "لم أفاجأ بمدى التفاعل بين مختلف الفئات اللبنانية والنازحين، الذين أرغمهم البرابرة على ترك منازلهم، وحقولهم، وحتى قبور آبائهم التي دمرتها الأرمادا الجوية الإسرائيلية، حتى لكأنك تسمع صراخ، أو أنين، الموتى".

هنا جوهر البنية السوسيولوجية للشعب اللبناني. وقد يكون ما حدث من كوارث لغرض تحطيم الروح اللبنانية، بعدما تم تجاوز كل ما يحكى عن أن البطريرك الياس الحويك الذي تحادث، في فرساي، مع رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو، كان يرمي إلى إنشاء "الوطن القومي المسيحي". لكن الضرورة الاقتصادية اقتضت الحاق مناطق أخرى تؤمن المحاصيل والفلاحين للدولة المستحدثة. لبنان الآن لكل اللبنانيين.

المفكر جورج قرم كان يقول "إن مشكلتنا في أن البعض من ساستنا هم، وبكل المعايير، ورثة القرن التاسع عشر حين كانت كل طائفة تحظى بحماية دولة أخرى، والى حد التبعية لهذه الدول. من هنا دعوتنا إلى هؤلاء للخروج من سراويل القناصل، أو من طرابيش القناصل، والتفاعل مع ديناميات القرن". لبنان يمتلك كل الأدمغة، وكل الأيدي التي تمكنه من تجاوز تلك المراوحة القاتلة، والدخول في "الاقتصاد البنفسجي"، اي اقتصاد المعرفة. ولكم من أين يمكن أن تكون البداية حين يقول أحد نواب "القوة اليهودية"، أي حزب ايتامار بن غفير، أن لبنان "عاش تحت كل تلك الأنواع الرديئة من الوصاية، وعليه أن يختبر الوصاية الإسرائيلية، ليدرك أن هذا هو طريقه إلى الخلاص". الخلاص في الوقوع بين براثن الذئاب...

من تابعوا السيرة الذاتية للفريق المرتقب للرئيس دونالد ترامب. ومن وزير الخارجية إلى وزير الدفاع، ومن مستشار الأمن القومي إلى مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ومن المندوبة لدى الأمم المتحدة إلى السفير لدى إسرائيل، لا بد أن يستنتج في الحال أن في رأس الرئيس العتيد توسيع مساحة إسرائيل بالحاق المنطقة (ج) من الضفة، وكذلك اقتطاع نحو 100 كيلومتر مربع من شمال غزة، وإقامة المستوطنات في هذا الشريط، ما يعني أن القضية الفلسطينية، التي دفنت تحت الثلوج، والورود، الاسكندنافية، باتفاق أوسلو، ثم بعثت، ستدفن مجدداً بأيدي. وبصلوات، الحاخامات.

ولكن من تراه يستطيع أن يطفئ ذاكرة الجمر، حتى في قبور الموتى، ليطفئ التراجيديا الفلسطينية؟  

لكن دونالد ترامب أكثر توجساً من جو بايدن من وقوع "زلزال النار" في الشرق الأوسط. همه الأساسي مراقصة التنين في الباسيفيك بغية ترويضه، كي لا ينافسه شي جين بينغ في مقصورة القيادة. ولكن، ألم تظهر استراتيجية وحيد القرن أن الكرة الأرضية لا يمكن أن تقف، وكما تقول الخرافة الأوروبية، على قرن ثور، والا الفوضى الأبوكاليبتية التي تضرب الجميع دون استثناء؟     

حين زار الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي بيروت، في تموز / يوليو 1996، وهو الذي لاحقته الأشباح التوراتية حتى إلى العالم الآخر بسبب كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، قال للبنانيين، وللعرب، "البقاء ما دون التكنولوجيا يعني البقاء ما دون الزمن". الآن ما بعد التكنولوجيا...

تريدون المثال ؟ ايلون ماسك الذي بات له حضوره الهائل حتى في الكواكب الأخرى، هدد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بـ"احراق شاربيه من الفضاء". لو كان لنا مكان في رأسه، ماذا تراه يقول لنا.؟