كلينت إيستوود .. القوي ينتصر دائماً

ثقافة 2024/11/25
...

 ترجمة واعداد: مبارك حسني 


أصدرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية العتيقة، في شهر تشرين الاول الماضي، عدداً خاصا عن الممثل والمخرج الأميركي المعروف كلينت إيستوود، في 164 صفحة كاملة، تحت عنوان دال هو "آخر العمالقة".   

كلينت إيستوود ممثلاً 


 في البداية، اشتهر بأدواره كرجل صموت. 

وفي مشواره كممثل، كان يصر باستمرار على أن يُقلِّل المخرجون من عدد الجمل التي يجب أن يقولها. كما كان يفضل أن تؤخذ له لقطاتٌ كبرى تبرز عينيه الزرقاوين الفولاذيتين، والوريد المنتفخ في صدغه، والاضطراب الداخلي الذي يوحي به ثبات ملامحه، والعبوس على شفتيه وهو يمضغ سيجارته. كان يقول: "الأفعال أبلغ من 

الكلمات". 

وإذا حدث وتفوه بكلمات منتقاة، فإنما لتؤكد هذه الكلمات ما كانت الموسيقى والصمت قد أوضحا للمشاهد بقوة لا تضاهى. يفعل ذلك سواء في أدوار البطولة في أفلام الويسترن، أو كشرطي، أو كفتى شقي يطلق النار بشكل أسرع من ظله، فتتناثر جثث أعدائه على طول الطريق التي يسلكها.   

كما برع أيضا في توخي البطء في حركاته التي تعكس ثقته وإرادته الجليدية. واشتهر بلا مبالاته التي تفجر مشاهد العنف بمجرد ظهوره. هو قناع يخفي خلفه كل عواطفه بعناية فائقة، بحيث يُحيط شخصيته بدائرةٍ من الغموض.  


كلينت إيستوود مخرجاً

كمخرجٍ، تكمن علامته التجارية في توخي الاقتصاد في الوسائل المُوظَّفة وفي اختيار الحبكة الواضحة. كان ضد إعادة كتابة السكريبت أكثر من اللازم، كما كان يكتفي بتصوير لقطةٍ واحدةٍ قدر الإمكان، وأن ينجز في ستة أسابيع لقطات كانت ستستغرق اثني عشر أسبوعاً، ويقوم بالمونتاج بلا تكرارٍ غير ضروريّ. كل ذلك بهدف الحفاظ على الشكل العفوي والطبيعي لما تم تصويره، بدل البحث عن الكمال. 

هذا الاسلوب الإخراجي جعله يكتسب رؤية موجزة للعالم من حوله، لأنه كان عدواً للتردد وكثرة الاحتياط. إن سينما هذا العاشق للحركة السينمائية المثيرة، لا يمكن تلخيصه في مجموعة من أفلام الحركة المدهشة، وعمليات إطلاق النار والمطاردات، في عالم يهيمن عليه العنف الأعمى والفوضى. إنها وحشية تَبنَّى فيها أساليبه الخاصة، خالقاً طريقته في تجسيد شخصية البطل في قَرنٍ فقد أوهامه.

وبسبب السلوك القاسي لشخصياته، وميلهم إلى معاملة معاصريهم على أنهم "حمقى وأغبياء"، تعرض كلينت إيستوود للانتقاد اللاذع لفترة طويلة. وكان سبق أن استغرب اتهامه بالعنصرية، في الحلقة التي قام فيها المفتش هاري بتصفية عصابة من لصوص البنوك السود وهو يمضغ النقانق. فأجاب بأن الفيلم " منح عملاً لأربعة من ممثلي الأدوار الخطيرة الأمريكيين من أصل 

أفريقي." 

كان فعلا أنموذجاً للذكورة الفحلة، فلم يراعِ الشكل الذي تظهر به، ولم يتبع إملاءات السياسة "النظيفة".  قيمت الناقدة بولين كايل، عدوته الدائمة،   سينماه على كونها "اختزال إلى حد العبث لذكورة اليوم".  أما المعجبين به، فيرون في الأفلام التي أخرجها طيلة العشرين سنة الأخيرة، انتصاراً لنبل المهزومين، وتشكيكاً في شرعية المنتصرين، واعتبروا ذلك ثمرة تحول إعجازي. 

 لا جدال في أن النضج الذي اكتسبه مع الزمن غيّر نظرته للأمور. إن القساوة التي تمنح أفلامه قوتها، كانت دائماً تقريباً مقرونة في الواقع بالشك وخيبة الأمل. فأبطاله ليسوا صالحين وسذج كأسلافهم في سينما الخمسينيات من القرن الماضي، فبعد انكسارات حرب فيتنام وأثر وخز الضمير الأميركي، أبدع أبطالاً يحاولون فقط شق طريقهم داخل فوضى العالم. لم يهتم المفتش هاري بالحدود التي كان رؤساؤه يودون حصره فيها، وعدم تجاوزها، واعتبر آخرون حُلوله السريعة تجسيداً حديثاً للفاشية الأمريكية. لكن الحقيقة، هي أن تصرفات العديد من شخصيات إيستوود، تنبع من ازدرائه للقواعد، ورغبته في تفضيل مبادئ القانون الأخلاقي على الاحترام الدقيق 

للإجراءات.

 ربما كان كلينت إيستوود طوال حياته، كما يعاب عليه، يبحث عن القوة. فبعد الانتشاء الذي جعله في سنوات شبابه الأولى يسعى إلى تنميتها كأداة للهيمنة ولعكس كبريائه، تظهر أفلامه كلها في نهاية المطاف سعياً لترويض هذه القوة. وكأنه أدرك أن هدفه هو رفع هذه القوة إلى مرتبة الفضيلة، وذلك بجعل العنف الذي تجلبه لا ينفصل عن العدالة. وكأنه اعتبر أنها عدوة كل ضعف وكل سذاجة التي كثيراً ما تكون ذريعة الجبن والتهكم، وبالتالي، لن تكون هذه القوة ذات فاعليةٍ إلا بقهر نفسها بهدف أن تمنح نفسها لشيء أعظم

منها.