أحمد حسن
"الشعب هو الأساس"، هكذا أعلنت ديباجة الدستور الفرنسي، مؤكدة أن سيادة الشعب تقوم على وحدة أرض لا تقبل التجزئة، في إطار قيم الجمهورية العلمانية والديمقراطية والاجتماعية. وفي هذا الإعلان، نجد الأسرة الفرنسية حاضرة كحجر الزاوية في تشكيل التماسك الاجتماعي، ما يجعلها محورًا أساسيًا لبناء الهوية الوطنية.
لكن عند إسقاط هذا النموذج على العراق، تظهر أزمة حادة؛ حيث تواجه الأسرة العراقية ضغوطًا تفوق قدرتها على الصمود، بسبب التحديات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي مزقت النسيج المجتمعي وأضعفت قدرة الشعب على التوحد خلف مشروع وطني مشترك. لطالما كانت الأسرة العراقية "الوحدة الاجتماعية الأولى"، التي حملت عبء التماسك المجتمعي، كما أشار عالم الاجتماع علي الوردي إلى أن الأسرة، بمفهومها التقليدي في العراق، لم تكن مجرد إطار للعلاقات الاجتماعية، بل كانت الحاضن الأول للقيم والتقاليد التي تشكّل هوية المجتمع. غير أن هذه المؤسسة تعرضت لصدمات متتالية خلال العقود الماضية، بدءًا من الحروب المتكررة في الثمانينيات والتسعينيات، مرورًا بالحصار الاقتصادي، وصولًا إلى الاحتلال الأمريكي عام 2003 وما تبعه من صراعات طائفية وعرقية. لم تؤثر هذه الصدمات على الظروف الاقتصادية فقط، بل أسهمت في تفكك الأسرة البنيوي. النزوح الجماعي والتهجير القسري، اللذان بلغا ذروتهما مع اجتياح عصابات داعش في عام 2014، تركا ملايين العراقيين بلا مأوى، ما أدى إلى تفتيت الروابط الأسرية. وكما يقول الفيلسوف إميل دوركايم: "إن تفكك الأسرة هو أول علامات الانهيار الاجتماعي". فعندما تضعف مؤسسة الأسرة، يفقد المجتمع قدرته بالحفاظ على تضامنه أو مواجهة الأزمات. على النقيض من النموذج الفرنسي، الذي يعزز دور الأسرة في المدارس لتعزيز التماسك الاجتماعي، يعاني العراق من غياب مشاريع مماثلة. فقد تراجعت الأسرة أمام ضغط الفوضى العامة والفساد السياسي والتدخلات الخارجية، ما جعل البيوت العراقية مرآة للانقسامات الطائفية والقومية. "الشعب العراقي"، كما يصفه الوردي، "مجموعة جماعات متصارعة فشلت في بناء وحدة وطنية". هذا الصراع ليس حديثًا، لكنه تصاعد بشكل كبير بعد عام 2003، حين انقسم الشعب إلى ولاءات طائفية وقبلية وعرقية على حساب الهوية الوطنية. يؤكد الفيلسوف يورغن هابرماس أن "الهوية المشتركة لا تُبنى على الماضي فقط، بل على مشروع مستقبلي مشترك". لكن العراق يفتقر لمشروع كهذا، إذ انحصر النقاش العام في إعادة إنتاج الماضي، بدلًا من صياغة رؤية وطنية تستوعب التنوع الثقافي والإثني. الأعراف العشائرية، التي كانت في الماضي جزءًا من الهوية الثقافية والاجتماعية للعراق، أصبحت وسيلة للضغط الاجتماعي. وكما يقول كلود ليفي شتراوس: "الثقافة ليست جامدة؛ إنها تتغير بتغير الظروف". هذه الأعراف، التي كانت مظلة تضامن اجتماعي، تحولت في كثير من الحالات إلى عامل يهدد استقرار الأسرة، حيث تجاوزت وظيفتها التقليدية لتصبح عبئًا على الأفراد. من هذا المنطلق، فإن مراجعة دور الأعراف العشائرية ضرورة ملحة، بحيث تستعيد دورها الأخلاقي والتضامني، بدلًا من أن تتحول إلى أدوات للسيطرة الاجتماعية. وهنا يظهر دور الدولة، التي ينبغي أن توفر نظامًا قانونيًا يحمي استقلال الأسرة، كما يرى الفيلسوف جون رولز في تأكيده أن "العدالة الاجتماعية تتطلب نظامًا قانونيًا يحمي الأفراد من أي ضغوط تعيق حقوقهم الأساسية". لحماية الأسرة العراقية واستعادة دورها، يجب تعزيز دور الدولة في تطبيق القوانين، التي تضمن المواطنة وتكفل استقلالية الأسرة. كما أشار أنطونيو غرامشي "الدولة هي القوة التي يمكنها تحويل العرف الاجتماعي إلى أداة لتعزيز التضامن، لا لإضعافه". يتطلب ذلك جهودًا مشتركة بين الدولة والمجتمع المدني لإحياء دور الأسرة كركيزة أساسية في بناء المجتمع. فمن خلال برامج تعليمية تعزز قيم المواطنة، وسياسات اقتصادية تخفف من وطأة الفقر، يمكن للأسرة العراقية استعادة مكانتها. وفي هذا الإطار، يمكن للعراق أن يستلهم التجربة الفرنسية، التي أثبتت أن الشعب ليس مجرد كتلة سكانية، بل كيان ينبض بالحياة من خلال روابط إنسانية عميقة، أبرزها الأسرة. وكما قال الوردي "الأمم تُبنى على قيم راسخة، لكنها تحتاج إلى إرادة حية تُعيد تشكيل هذه القيم مع الزمن". رغم المحن العميقة التي مر بها العراق على مدى العقود، يبقى هذا الوطن حاملًا لإرث طويل من التماسك الاجتماعي والحضاري، الذي كان على الدوام أحد أعمدة هويته. هذا التماسك، وإن تعرض لهزات عنيفة بسبب الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يزال قابلًا للاستعادة إذا ما تمت مواجهة جذور الأزمة برؤية شاملة تعيد صياغة العلاقة بين التراث والتطور، بين الماضي والمستقبل. إن معالجة أزمات العراق ليست مجرد مهمة آنية مرتبطة بإصلاح سياسي أو اقتصادي أو عمراني، بل هي مشروع وجودي يهدف إلى إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس تتجاوز الولاءات الفرعية، وتحتضن التنوع الثقافي والإثني ضمن إطار جامع. ولتحقيق ذلك، ينبغي وضع رؤية استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار التاريخ العميق للعراق بوصفه موطنًا لأعرق الحضارات، وفي الوقت نفسه تتطلع إلى صياغة مشروع مستقبلي يستجيب لتحديات العصر ئالحديث. في صلب هذا المشروع، تكمن "الأسرة والشعب" بوصفهما الركيزتين الأساسيتين لبناء السيادة الوطنية. فالأسرة العراقية، التي ظلت على مر التاريخ نواة التماسك الاجتماعي، تحتاج إلى إعادة الاعتبار لدورها في ظل التحديات الجديدة. ولتحقيق ذلك، لا بد من تبني سياسات تهدف إلى تعزيز استقرار الأسرة وحمايتها من الضغوط السياسية والتيارات الاجتماعية المتشددة التي تعيق دورها الحيوي. ينبغي لهذه السياسات أن تخلق بيئة تدعم الأسرة وتحررها من العزلة، مما يمكنها من أن تكون ركيزة أساسية لنشر قيم المواطنة وتعزيز روح التضامن الاجتماعي. بهذه الرؤية الشاملة، يصبح العراق أكثر من مجرد وطن مثقل بالمآسي، بل نموذج قادر على تقديم دروس للعالم في كيفية تحويل الأزمات إلى فرص، والتحديات إلى منطلقات. فكما أشار الوردي: "الأمم تُبنى على قيم راسخة، لكنها تحتاج إلى إرادة حية تُعيد تشكيل هذه القيم مع الزمن". بهذه الإرادة، يمكن للعراق أن ينهض من رماده ليصنع مستقبلًا يتناسب مع عمق حضارته ويليق بطموحات شعبه.
باحث وأكاديمي