ا.د عامر حسن فياض
لا غرابة ولا استغراب أن تكون في أزمنتنا انحرافات للديمقراطية، رغم أن الجميع يناشد بها ويدعي عدم المناهضة لها من باب إسقاط فرض للقول والتقول بها لا غير ذلك.والحق للديمقراطية الحقة أن تسيطر التعددية على مجمل ما نفكر وما نعمل على أن يكون هذا التفكير وهذا العمل مصحوبا بالتسامح مع المختلف، بل وتشجيعه دعما لتقدم الأمم، وصولا إلى أحسن السياسات واستئصال الأفكار المنحرفة. فهل الديمقراطية بحاجة إلى أخلاق كي لا تنحرف؟ وكيف الحفاظ على الديمقراطية دون انتزاع الأخلاق منها؟.
إن المجتمع سيكون سليما بقدر ما تقترن الفردية بالتعددية، لأن المجتمع بقدر ما يعتمد على الفرد كأساس لوجوده يضمن تقدمه ورفاهية أفراده وجماعاته، الأمر الذي يتطلب ضمان حرية الابتكار الفردي. وعليه فالزعماء المتفوقون فكريا هم من يجب أن يقودوا الأفراد العاديين، ويبنوا للأمة الطريق الذي يجب أن تسير فيه، والا فأنها لن تجد هذا الطريق لوحدها، لأن الحشود لا تفعل إلا ما يوحي به إليها زعماؤها وذوو النبوغ فيها بما يثيرون، فيهم من دوافع للإنجاز.
فلو إن (فون بسمارك 1815- 1898) صاحب الدور الاول في تأسيس القيصرية الألمانية الثانية إبان الحرب الألمانية الفرنسية مات في مهده، لظل الألمان يكتفون بالنظر إلى أنفسهم، بوصفهم جنسا من السادة، من دون أن يفعلوا ما يثبت ذلك الاعتقاد ويجسده عمليا، وعليه فإن ازدياد سرعة تقدم أمة ما قياسا بأمة أخرى يرجع إلى النبوغ، الذي يميز بعض أفراد تلك الأمة، لذلك يمكن تفسير الأحداث والتحولات الكبرى في تاريخ المدنية بوجود عدد كبير من الزعماء الممتازين في حقبة محددة من الزمن، وهذا ما يجعل قادة وطنيين مثل الفرنسي (نابليون بونابرت 1769- 1821م) والإيطالي (جوزيبي غاريبالدي 1807- 1882) جديرين بالإعجاب مثلما هو الحال بالنسبة للعلماء والمفكرين من أمثال (شارلس دارون) و (جون ستيوارت ميل).
إن التمسك الذي أيده وليم جيمس بالتعددية والفردية قاده إلى مساندة الحرية ليس بالنسبة للأفراد، بل وأيضا للأمم. وتأسس موقف (جيمس) هذا على إيمانه بفضائل البطولة والحياة الشجاعة ودعوته إلى ممارستها، ولكن بشكل فردي وشخصي أولا وأساسا، وكان هذا منطلق دعوته إلى تطبيق (البديل الأخلاقي) الذي اتخذ لديه صورة تجنيد إلزامي شامل لكل الشباب، لتتجه مجموعة منهم إلى العمل في المناجم وأخرى لبناء الطرق والإنفاق، أو في أساطيل صيد السمك في برد الشتاء، ليتخلص هؤلاء الشباب من طفولتهم، ويعودون إلى المجتمع بمشاعر أفضل وأفكار انضج، وهذا الأسلوب يحفظ للأمة مزايا القوة من دون إراقة دماء. فإن (وليم جيمس) نظر إلى الحروب بشيء من الرومانسية دون أن يتعاطف مع الحرب.
ومن بعده جاء (جون ديوي) ليصوغ معتقداته الأخلاقية، مبديًا اهتماما كبيرا بالحياة العامة وقضاياها، مستندا إلى معتقداته الأخلاقية الخاصة بتحقيق الذات واعتقاده أن (الفردية الجديدة) هي النشاط الجماعي والتجربة العامة الضروريين لتزويد الفرد بالحرية الفعالة والفهم العملي، لاحتياجاته ومصالحه.
وربما كانت آراؤه هذه سبب اعتباره الداعية الأول للاشتراكية الديمقراطية. فقد صاغ هو واتباعه نظرية للديمقراطية، ليس بوصفها شكلا من أشكال الحكومات فحسب، بل وبوصفها أيضا نظاما للحياة المترابطة القائمة على إنتاج المجتمع للحرية. فالمجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يوجه منظماته نحو هدف جذري موحد، يتيح لأعضائه النشوء عقليا وعاطفيا وهم يمتلكون اهتمامات مشتركة، وشعورا بالمسؤولية المشتركة عن عمليات الضبط الاجتماعي والمادي، ليكون بلوغ هذه النتائج هو المحصلة النهائية للديمقراطية الحقة.
وعلينا ألّا نرتبط هنا فقط بالعدالة الاجتماعية، بمعنى تجنب الأشياء التي تجلب الألم والأذى، مثل التوزيع غير العادل للثروة، بل نرتبط أيضا وأساسا بالديمقراطية. وإن العدالة الاجتماعية ليست الغاية الرئيسية للديمقراطية، بل هي غرض لاحق لهذه الديمقراطية ونتيجة لها، ولكنها تستند إلى الديمقراطية، التي تعني حكم الشعب بوصفه الغاية التي يناضل لأجلها، وهو ما ينطوي على الديمقراطية الاجتماعية انطواؤه على الديمقراطية السياسية.
فهل يمكن أن يكون أي انسان حرا فعلا، وهو في خطر دائم من الاعتماد على بقائه على شخص ما وشيء ما غير اجتهاده وسلوكه الفرديين؟ فالاعتماد المالي على الآخرين لا يتفق مع الحرية ولا يتناسب معها بأي شكل. لأن حرية الفرد وتربيته شرطان جوهريان للديمقراطية الناجحة.
فإذا كانت الحكومات السبب في نشأة فئات واسعة من المواطنين المعتمدين على غيرهم ماليا، فأن ما يخفف من حدة هذا الشر الكبير هو أن الحكومة نفسها تتولى مسؤولية التخفيف مما تعانيه هذه الفئات من نقص أو أن تلجأ إلى غيرها للنهوض بهذه المسؤولية، لأن بلوغ الحرية يكلف ثمنا باهظا وهذا ما يجسد الإيمان بالديمقراطية، بوصفها نظاما سياسيا واجتماعيا ينطوي بطبيعته على الحرية والتجريب والبحث والتحليل واختبار النتائج والأسلوب العلمي، خلافا للنظم السياسية الاجتماعية الأخرى، التي تتحدد فيها السياسة بشكل تحكمي، أو طبقا لمعتقد مقدس ما أو تقليد ما من تقاليد الماضي.
وعليه فإن الديمقراطية ستكون منزوعة الأخلاق دون قيامها على العدالة الاجتماعية والأخيرة، بدورها ستكون منحرفة دون الديمقراطية كنظام سياسي واجتماعي.