د. عدي حسن مزعل
من سمات الأحداث الكبرى أن تداعياتها تتجاوز جغرافية وقوعها إلى نطاق أوسع هو النطاق الإقليمي والعالمي. ينطبق هذا المعنى على الحرب في غزة ولبنان. فقد تفاعلت مع هذا الحدث حكومات ومؤسسات وشعوب وأفراد لهم شهرة وتأثير على صعيد عالمي. ومع أن الوقوف مع المظلومين والمستضعفين أمر يفرضه الضمير والحس الإنساني بمعزل عن الانتماءات الدينية والقومية والمذهبية، وهو ما تجلى على نحو واسع في شتى أنحاء العالم، فإن ثمة ردوداً ومواقف تلفت النظر وتستحق الوقوف عندها.
ذلك أن ثمة من تفاعل مع الحرب على النحو الذي جعله في مقام واحد مع العدو الصهيوني، رغم القواسم المشتركة بينه وبين المظلومين في غزة ولبنان، ورغم ادعائه معاداة هذا العدو وإدانة جرائمه، وهو ادعاء اعتمد الازدواجية والتمويه أحياناً. إذ رأينا كيف تبنت حكومات ومثقفون وسياسيون وإعلاميون خطابا يكرس التضليل والخداع، ويدفع صوب تشويه حقيقة الحرب على غزة ولبنان في وعي الجمهور، وذلك من خلال مصطلحات (مؤامرة ومسرحية) التي جرى التأكيد عليها في مختلف وسائل الإعلام، حتى أن عدداً غير قليل من الجمهور راح يروج لها بوصفها الحقيقة المعبرة عن الحرب وأحداثها، في حين أنها لم تكن سوى وسيلة للتغطية على جرائم العدو وإشغال الجمهور عن دوره الحقيقي في الدعم والمساندة.
وعند المقارنة بين خطاب الشعوب الغربية وخطاب الكثير من شعوب منطقتنا إزاء ظاهرة الحرب، لم يصادفنا أن الأوروبيين قد رؤوا في الحروب التي اندلعت في قارتهم (وما أكثرها) أو خارج قارتهم مع شعوب أخرى بوصفها مسرحية واتفاقا معدا مسبقاً..... فلماذا تنفرد شعوب منطقتنا بهذه التصورات دوناً عن شعوب العالم الأخرى ؟ لماذا يجتر الفرد في مجتمعاتنا ذات المنطق والأحكام، رغم أن التاريخ يكذبها ويثبت بطلانها ؟ ترى هل يمكن لهذا النمط من الوعي الذي يكاد يكون السمة الغالبة على شعوب منطقتنا أن ينتصر على أعدائه ؟ هل يستطيع هذا الوعي والنخب التي تروج له أن يحقق أهدافه التي يسعى لها منذ عقود في الحرية، والديمقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان؟.
يتصف هذا الوعي بغياب الرؤية العقلانية عند تحليل الظواهر والأزمات أو في تقييم الرؤساء والحكام. فهؤلاء (الحكام) في خطاب شعوب منطقتنا أما أشرار، عملاء، مستبدون، أو أخيار، وطنيون يستحقون كل الثناء والتبجيل، لا بل التقديس أحياناً. نجد ترجمة هذا المعنى في تصورين ما زالا سائدين رغم قدمهما حول بعض الحكام في منطقتنا، الأول يرفعهم إلى مرتبة الأبطال الأسطوريين، ويرى فيهم عدوا شرسا للإمبريالية الأمريكية والصهيونية، وإن فلسطين ستحرر على أيديهم، وتصور آخر يرى فيهم مجرد أداة لتنفيذ أجندة أمريكا في المنطقة، وإن الحروب التي خاضوها، ومسلسل التدمير الذي عاشته بلدانهم، ونهاية سلطة بعضهم باحتلال دولهم أو تمزيقها من الداخل، كلها عبارة عن مؤامرة ومسرحية تم إعدادها والاتفاق عليها مسبقاً. ولهذا، نادراً ما نجد تحليلاً موضوعياً، عقلانياً، لحقبة بعض الرؤساء بعيداً عن هذين التصورين. !
ولا شك أن هذا الوعي والخطاب الصادر عنه يفتقد للوسطية والاعتدال، فهو نموذج للتفكير الأحادي الذي يرى الأشياء من منظور ثنائيات متنافرة: أبيض أو أسود، خير أو شر، سيد أو عبد، إنه في المحصلة نتاج تراكم غير مسبوق من الفشل والخراب.... شكلته عقود طويلة من القهر والخوف والجهل والتضليل. وربما كان ذلك هو السبب في اختيار المؤمنين بهذا الخطاب السهل المتاح: مسرحية، مؤامرة، مصطلحات تغني مريديها عن عناء التفكير. فالوعي شقاء كما يقول الكثير من المفكرين. لذلك كان الاجترار والتكرار هما السمات الرئيسة لهذا الوعي، وكأن في الخروج عن السائد كسرا للإجماع لا يخلو من مخاطر!
يؤكد هذا المعنى جملة خصائص لازمت الفرد في منطقتنا، وهي: عدم الشعور بالمسؤولية، والعجز عن مواجهة الأحداث، كثرة الشعارات والحماسة الفارغة على حساب العمل الهادف والمنظم، غياب التفكير العقلاني على نحو مخيف. ونقصد بالخاصية الأخيرة عدم إخضاع الأشياء المنظور فيها للتفكير، أي إجراء عملية الفهم والتحليل والمقارنة. وذلك يعني رفع العقل، تعطيل وظيفته ومهامه، وترك الأهواء والغرائز والميول تتحدث في الفرد على حساب أداة النظر والتحليل (العقل).
وثمة مفارقة تنطوي عليها الحماسة، التي تبديها بعض الحكومات المطبعة مع الكيان الصهيوني من الحرب على غزة ولبنان، وذلك حين تسخر كل أجهزتها من أجل الإطاحة بخطاب المستضعفين والمظلومين، تكذيبه، تشويهه، التقليل من تأثيره. وتكمن المفارقة في أن هذه الحكومات، وإن نجحت أحياناً في تمرير خطابها، وتمكنت من إقناع جمهورها، فإنها من حيث لا تشعر تخلق مع مرور الزمن فئة كبيرة من العامة، يغيب عنها الوعي اليقظ والتفكير الحر، فلا تعود تميز الحقيقة من الزيف.