محمد علي الحيدري
تشهد الولايات المتحدة الأميركية مرحلة فارقة في تاريخها السياسي، إذ يتزايد النفوذ المحافظ في ظل صعود تيار اليمين وتصاعد الأصوات الداعية إلى تبني سياسات أكثر تشددا تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية. ومع انتخاب رئيس محافظ يعبر عن توجهات هذا التيار، يثار السؤال حول مستقبل الاعتدال في أميركا، البلد الذي طالما افتخر بتنوعه وتوازن قواه السياسية.
وبعد انتخابات 2024، التي شهدت فوز الرئيس السابق دونالد ترامب بولاية ثانية، برزت ملامح تحول عميق في النظام السياسي الأميركي، حيث أظهر الناخبون تراجعاً في دعم التيارات المعتدلة في كلا الحزبين الرئيسيين.
في المقابل، صعدت التيارات الأكثر تطرفاً، مما يعكس تحولاً في أولويات الناخبين ومستقبل النظام الحزبي في الولايات المتحدة.
لقد عاد ترامب، الشخصية المثيرة للجدل، إلى البيت الأبيض مستغلاً دعم قاعدة شعبوية قوية، وهو يعد رمزا للسياسات القومية واليمين المتشدد، واستخدم شعارات مثل "أميركا أولاً" لتوجيه الخطاب السياسي نحو القضايا المحلية، متجاهلاً إلى حد كبير المخاوف الدولية بشأن الديمقراطية الأميركية. ووفقاً لتحليل جيليان تيت في Financial Times، يمثل فوز ترامب "انعكاساً لخيبة الأمل العميقة من أداء المؤسسات التقليدية وعدم قدرة الديمقراطيين على معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى".
وليس هذا فحسب، اذ برزت شخصيات مثل مارغوري تايلور غرين، النائبة الجمهورية عن جورجيا، ومات غايتز، النائب عن فلوريدا، كرموز لليمين الشعبوي فبينما تدعم غرين سياسات متشددة ضد الهجرة وتروج لنظريات مؤامرة تحظى بشعبية بين القواعد الجمهورية، يركز غايتز على الهجوم على المؤسسات الديمقراطية وتقليل دور الحكومة الفيدرالية في القضايا الاجتماعية. وهذه الشخصيات باتت الآن أكثر نفوذاً داخل الكونغرس، مما يعزز الاتجاه المحافظ للحزب الجمهوري.
لقد ساهمت مجموعة من العوامل في صعود اليمين في السنوات الأخيرة، أبرزها الاستقطاب السياسي الحاد الذي أفرزته التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فالانقسامات تفاقمت بفعل القضايا المثيرة للجدل، مثل الهجرة، والحقوق الثقافية، والتعليم، والسياسات البيئية، ما أدى إلى شعور شريحة واسعة من الأميركيين بالقلق إزاء التغيرات التي تهدد هويتهم التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، استغل قادة اليمين الشعبي هذه المخاوف ليقدموا أنفسهم كمدافعين عن "القيم الأميركية الأصيلة"، ما جذب قاعدة شعبية واسعة لا تثق بالمؤسسات التقليدية وتبحث عن زعامة قادرة على تنفيذ وعودها بفعالية.
لقد شهد الحزبان الرئيسيان انقسامات داخلية عميقة. في الحزب الجمهوري، أدت هيمنة الترامبية او ما يعرف بال"ترامبست" إلى تهميش الشخصيات المعتدلة التي دعت إلى سياسات أكثر توازناً مثل ميت رومني وليزا موركوفسكي.
ويرى محللون أميركيون أن تراجع الاعتدال يشكل تهديدًا لبنية النظام السياسي الأميركي، الذي يقوم على مبدأ الضوابط والتوازنات. فالاستقطاب بين اليمين واليسار يضعف قدرة المؤسسات على الوصول إلى حلول وسطية للقضايا الكبرى، مثل الإنفاق الحكومي، والتغير المناخي، وحقوق الإنسان.
يقول خبراء في السياسة الأميركية إن صعود تيار متشدد على حساب الأصوات المعتدلة يجعل التوافق السياسي أكثر صعوبة، مما يزيد من احتمالات الجمود التشريعي والاضطرابات الاجتماعية. ومع ذلك، يرى آخرون أن ما يحدث هو دورة طبيعية للسياسة الأميركية، حيث تميل القوى السياسية إلى التحول يمينًا أو يسارًا استجابة لتغيرات المجتمع، قبل أن تعود لاحقًا إلى الاعتدال.
التحديات أمام الاعتدال:
1.الإعلام والاستقطاب الرقمي: أصبحت وسائل الإعلام، التقليدية منها والرقمية، مسرحًا لتعزيز الانقسام السياسي من خلال التركيز على الخلافات بدلاً من القواسم المشتركة.
2. تأثير المال السياسي: يؤدي النفوذ المالي في الانتخابات إلى تضخيم أصوات الأطراف الأكثر تطرفًا، حيث تميل التبرعات الكبرى لدعم المرشحين الذين يتبنون مواقف صارخة.
3.الأزمات الاقتصادية والاجتماعية: تزيد التحديات الاقتصادية، مثل التضخم والفجوة الطبقية، من حدة التوترات بين الشرائح الاجتماعية، ما يدفع الناخبين نحو الخيارات الأكثر تطرفًا.
ورغم هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في استعادة الاعتدال كقوة سياسية فاعلة وذلك يعتمد على قدرة القيادات الأميركية على تقديم نموذج جديد للحكم يقوم على البراغماتية بدلاً من الأيديولوجية الصارمة. وقد يظهر جيل جديد من القادة السياسيين ممن يتمتعون بقدرة على التواصل مع مختلف الأطياف، والعمل على إعادة بناء الثقة بالمؤسسات الديمقراطية.
ان صعود اليمين في أميركا يمثل اختباراً صعباً لاستدامة التوازن السياسي والاجتماعي.
ومع أن التاريخ الأميركي أثبت مراراً قدرة النظام على التكيف مع التغيرات، فإن استعادة الاعتدال تتطلب جهودًا جماعية على المستويين الشعبي والقيادي لتجنب تحول الانقسامات الحالية إلى أزمة دائمة تهدد ديمقراطية البلاد.