عادل الجبوري
بعد تحضيرات واستعدادات واسعة، وعمل متواصل من قبل أجهزة ومؤسسات حكومية مختلفة على مدى شهور عديدة، أنجزت عملية التعداد العام للسكان والمساكن بنجاح، حسب ما أكد المعنيون بزمام الأمور، وتم الإعلان عن نتائج التعداد من قبل رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني قبل أيام قلائل.
ومعروف أن الظروف والأوضاع السياسية والأمنية الاستثنائية التي مرّ بها العراق طيلة عقدين من الزمن، لم تعطل اجراء التعداد المقرر كل عشرة أعوام فحسب، وانما عطلت دوران عجلة الحياة بالشكل الطبيعي ايضا، وأكثر من ذلك، تسببت بالتراجع والانكفاء والتخلف في الكثير من الجوانب والمجالات، ناهيك عن الفوضى والخراب الذي نتج عن خضوع البلد للاحتلال، واستفحال المصالح الخاصة على المصالح العامة، وارتباك الأولويات، وغياب الرؤى العلمية والعملية الواضحة المرتبطة بمتطلبات واحتياجات وضرورات الواقع، إلى جانب اسقاطات التنافس والصراع السياسي، الذي تمظهر بالطابع القومي والطائفي والمذهبي والمناطقي، بفعل أجندات ومشاريع وارادات خارجية بالضد من الإرادات والاهداف والمشاريع الوطنية. وطبيعي أن انعدام الاستقرار، واضطراب الأمن، وغياب التخطيط، يفضي إلى انسداد كل مسارات التنمية والتطور، ولا شك أن تحقق أي واحدة من هذه المفردات، يرتبط بتحقق المفردات الأخرى. فالاستقرار بكل أوجهه وعناوينه يتحقق حينما يتوفر الامن، والتخطيط السليم والمدروس، يبقى غائبا ولا وجود له بانعدام الاستقرار وغياب الامن. ولعله هكذا كانت الصورة الاجمالية العامة في العراق لحوالي عقدين من الزمن. ولا شك أن إجراء التعداد بعد سبعة وعشرين عاما على إجراء آخر تعداد في العراق، يمثل خطوة مهمة للغاية على طريق البناء والإعمار والتطور والتنمية.
وفي عالم اليوم، باتت لغة الأرقام هي من تتيح تشخيص مواطن الضعف والخلل والقصور والانحراف، وهي من تحدد الحلول والمعالجات، وهي من توجه الأولويات والضرورات والحاجات، وتقرر مدياتها القصيرة والمتوسطة والبعيدة، فلم يعد ممكنا ولا مجديا تنفيذ أي مشروع كان، دون معرفة حجم الاستفادة منه، ومن سيستفيد منه، وكيف والى أي مدى؟، سواء كان مدرسة، أو مستشفى، أو شارعا، أو جامعة، أو مجمعا سكنيا. والأرقام لا توفرها الافتراضات والتخمينات والتقديرات، وإنما توفرها الاحصائيات الدقيقة المستندة على معايير ومبادئ علمية صحيحة، بعيدا عن الأهواء والرغبات والحسابات والمصالح الخاصة. والتعداد السكاني العام الأخير، حتى وإن لم يكن دقيقا وشاملا بالكامل، فإنه يعكس الواقع بكل تفاصيله وجزئياته بنسبة كبيرة جدا، وهذا ما يعني أن مسارات التخطيط ووضع المشاريع الاستراتيجية والمرحلية، الخدمية والتنموية والاستثمارية، سوف ترتكز على معطيات واقعية على الأرض. ولعل القضية المهمة بالنسبة لأصحاب الشأن والقرار، هي ضرورة ألّا تكون عملية التعداد السكاني العام، هدفا بحد ذاتها، وإن نجاح التنفيذ يمثل نهاية الطريق، بحيث يتمحور كل الكلام لفترة من الزمن حول ذلك النجاح، ومن ثم يؤدي تعاقب وتسارع الوقائع والاحداث إلى طوي صفحة حدث "التعداد" كما طويت وتطوى الكثير من الصفحات. التعداد، أوضح العدد الإجمالي للسكان، وأعداد سكان كل محافظة، ونسب الذكور ونسب الإناث، ونسب معدلات الأعمار، ونسب طلاب المدارس والجامعات، وسكان الريف وسكان الحضر، وأعداد موظفي الحكومة، والعاملين في القطاع الخاص، والعاطلين عن العمل، إلى جانب اعداد المستشفيات والمدارس والجامعات، ومختلف المؤسسات والمفاصل الحياتية الخدمية، بحيث يفترض أن الصورة باتت واضحة وجلية للغاية، وعلى ضوئها تصاغ الخطط، وتنفذ المشاريع، وتحدد خرائط الأولويات، وترسم مسارات الاحتياجات، بعيدا عن الارتجال والتسرع والتقاطع والفوضى والارتباك. بتعبير آخر، يجب أن يكون التعداد وسيلة ومقدمة نحو تحقيق أهداف البناء والتنمية والإصلاح، واذا لم يكن كذلك، فسيكون مجرد جهد ووقت ومال ضائع. مؤشرات ومعطيات وحقائق العمل الميداني للحكومة الحالية خلال العامين المنصرمين، تشجع على التفاؤل والاستبشار بآفاق المستقبل، مع التأكيد على أن البناء والتنمية والإصلاح لا يتحقق عبر الخطط والمشاريع العلمية السليمة فقط، بل عبر محاربة حقيقية لكل مظاهر واشكال الفساد،.