إبراهيم العبادي
المراقب لتصريحات ساسة وزعامات، وناشطين وإعلاميين ومسؤولين عراقيين، بشأن تداعيات الأزمة السورية على أمن العراق واستقراره، وكيفية التعامل معها، يخرج بانطباع سريع مفاده بأن العراقيين غير متفقين على رؤية موحدة، وأن الموقف المطلوب عراقياً يخضع لمزايدات وانفعالات وحسابات، بعضها قصير النظر والآخر متأثر بحسابات ايديولوجية واستقطابات داخلية وخارجية.
الجميع متفق على أن ما يحدث في سوريا يثير القلق وينذر بمخاطر أمنية ويستتبع تغييرات سياسية تنذر بتغيير خريطة التحالفات في المنطقة، لكن الاختلاف يظهر بسرعة حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأزمة.. هل العراق جاهز للتعامل مع هذه التطورات واحتوائها والتكيُّف معها، وتكييفها لضمان الأمن القومي العراقي؟ وهل أن إمكانات العراق العسكرية والمالية وموقفه الدبلوماسي الخارجي يتحملان تدخلاً عسكرياً مثلاً؟ هل أن المراهنة على بقاء نظام الرئيس بشار الأسد، خيار سليم، بعد أن أصبحت قضية انهياره مسألة وقت لا أكثر؟.. والسؤال الأكثر الحاحاً هو: أيهما أهم للأمن القومي العراقي، التعامل مع التطورات والمتغيرات ونتائج الميدان، أم الثبات على موقف داعم لنظام الأسد؟
يجزم بعض العراقيين بأن البديل السياسي القادم في سوريا سيكون نظاماً طائفياً معادياً للعراق، لأن من بدأ الهجوم يوم 28 تشرين الثاني على إدلب وحلب، وتالياً حماة، هي هيئة تحرير الشام التي يقودها أبو محمد الجولاني، المساعد السابق لزعيم تنظيم داعش المقتول أبو بكر البغدادي. ورغم النعومة والتغيير الواضح في خطاب وسلوك الجولاني وأتباعه، غير أن أحداً لا يصدق أن تحولاً ايديولوجيا قد حصل عند هؤلاء، بقدر ما هو تكتيك ميداني، وضرورة سياسية وإعلامية اقتضتها حاجة الميدان إلى رسائل طمأنة للآخرين، لتركيز الجهد على تحقيق الهدف المركزي المتمثل بالوصول إلى دمشق وإسقاط النظام .
رؤية هذا الفريق العراقي تدفع إلى التصرُّف باندفاع وقوة داخل سوريا لمنع وقوع الأسوأ، وهو سيطرة هذه الفصائل المصنَّفة إرهابية، على السلطة، وإدارة الشأن السوري، وفقاً لمتبنَّياتها الايديولوجية، والتوجه شرقاً لتصفية الحساب مع العراق، على خلفية مواقف طائفية، وللانتقام من مشاركة عراقية قاتلت إلى جانب القوات السورية الحكومية، وفصائل وقوات مصنَّفة على المحور الإيراني الذي تعاديه الفصائل السورية المدعومة تركياً وربماً دولياً أيضا .
هاجس العراقيين الأكبر هو ما تعيده الذاكرة القريبة يوم اندفع سوريون بتوجهات مختلفة للتدخل في شؤون العراق منذ سقوط نظام البعث عام 2003 .
سوريا الأسد الرسمية والشعبية، ظلت تدعم القوى الإرهابية في العراق لغاية عام 2011 بدعوى منع استقرار النفوذ الأميركي، ودعم المقاومة العراقية السنية!!!، بعد اندلاع المواجهات بين النظام وأعدائه. نهاية عام 2011 وحينما بدأت المدن تسقط بيد تنظيمات أكثرها سلفي التوجه، احتاج النظام إلى دعم إيراني ومن حلفاء إيران من فصائل المقاومة الشيعية. هذه التبدلات في المواقف السورية الرسمية والمعارِضة، تعيد التذكير بأن البيئة السورية هي أخطر جهة خارجية على أمن العراق السياسي والعسكري والاجتماعي، وهي بيئة متحركة سريعة التغير ما يستدعي قراءة عميقة متأنِّية تأخذ بالحسبان التبدلات الطائفية والتوجهات السياسية والتحالفات الخارجية لبنية السلطة والأنظمة المتعاقبة في سوريا. فمنذ تدخلات العقيد عبد الحميد السراج، رئيس الاستخبارات العسكرية السورية، ذي التوجهات القومية الناصرية (منذ خمسينيات القرن المنصرم)، وتفجيره لأنبوب النفط العراقي، إلى الدعم العلني للإرهابيين في صفوف تنظيم القاعدة في العراق، قبل أن تدور الدوائر على النظام السوري، ويصبح هدفاً للسلفيين والإخوانيين والأردوغانيين. منذ ذلك الحين والعراق حائر في التعامل مع سوريا، وقد استمرت هذه الحيرة بسبب خضوع القراءة الأمنية لمتغيرات مستمرة، بعضها ناشئ من اصطفافات سياسية مؤقتة، وبعضها الآخر خاضع لمزاجيات وردود أفعال .
في جميع الأحوال، لم نتعرف على رؤية متكاملة لموقع سوريا في نظرية الأمن القومي العراقية، وأنا افترض وجود هذه الرؤية افتراضاً، والواقع يشير إلى اجتهادات وحسابات سريعة وإملاءات خارجية ورغبات محورية أكثر مما هي قراءة جيوسياسية واستراتيجية للمجتمع والدولة والطوائف والتوجهات والأحزاب السورية .
على مدى ربع قرن تقريباً من غياب حافظ الأسد، افتقرت سوريا إلى الزعيم القادر على حماية نظامها السياسي من المتغيرات السريعة، وظلت السياسة الداخلية متخشِّبة صلبة غير قادرة على قراءة التبدلات الاجتماعية والسياسية، وبقيت هذه الرؤية تعيد ذات الخطاب الممجوج الذي يضع الأخطاء والتهديدات على عاتق مؤامرات المشروع الخارجي، ويغفل عن جوانب الانحطاط في البنية الداخلية حزبياً وأمنياً واقتصادياً وإعلامياً، اكتفى النظام بترديد مقولات المقاومة والوقوف بوجه المشروع المعادي، متوهماً الشرعية من وراء ذلك، فيما بدت رياح التغيير تعصف بكل محور المقاومة، في لحظة ضعف قاسية، ابتدأت من غزة ولبنان وجارية الآن شرقاً عبر سوريا ثم إلى بقية حلقات المحور. الأمن القومي العراقي مطالب بأن يقرأ هذه المتغيرات بتروٍّ، ويحسبها حساباً مفارقاً لمنطق الخراف السوداء والبيضاء .