نبيه البرجي
ولكن الى أين تذهب التكنولوجيا ـ وفي إطارها الذكاء الاصطناعي ـ بالبشرية ؟ بالرغم من ذلك تضج معاهد البحث الدولية بعلامات الاستفهام حول من يقود الكرة الأرضية، بعدما كانت الأمبراطوريات السابقة تنتشر في مناطق محددة. الباحث المستقبلي الأميركي آلفن توفلؤ كان يقول إن "الآلهة في الميثولوجيا هي التي تصنع البشر. مع التكنولوجيا، البشر يصنعون الآلهة". لا نتصور أن صراع منتصف القرن، أو القرن، سيكون بين أميركا وروسيا، أو بين أميركا والصين. صراع أميركا مع... أميركا !
جورج كينان الأميركي الذي أطلق نظرية "الاحتواء" (1946 ) رأى أن مشكلة روسيا الأبدية في كونها تحاول إقناع نفسها بأنها دولة موجودة. وعندما زال الاتحاد السوفياتي، وعلّق الكاتب، والصحافي، الفرنسي جان دانييل "لكأنك تستفيق ذات يوم ليقال لك إن الشيطان مات"، بدأت العقدة الروسية في الازدياد (فكرة الوجود أو اللاوجود)، لتزداد معها الحساسية الاستراتيجية، والتاريخية، داخل هيكلية السلطة. الروس أو جلّهم رأوا في فلاديمير بوتين بطرس الأكبر. بالكثير من الحيرة يستعيدون تلك السنوات التي أعقبت سقوط الأمبراطورية السوفياتية. يقال الآن "مثلما ايفانكا، ابنة دونالد ترامب تتجول، بالكعب العالي، في رأس أبيها، كانت تتيانا، ابنة بوريس يلتسين تتجول، بزي راقصة البولشوي، في رأس أبيها الذي كان يتدحرج مثل برميل الفودكا في قاعة القديسة كاترين في الكرملين. كلام كثير شاع حول علاقة غرامية تربطها بنائب رئيس الوزراء اليهودي آناتولي تشوبايس، وكان الدمية بين يدي ميخائيل خودورفسكي الملياردير اليهودي، ورئيس مجلس ادارة "يوكوس"، الشركة النفطية العملاقة، الذي راح يتباحث مع جورج سوروس، نجم وول ستريت، حول شراء الكرملين، وتحويله الى فندق أو الى كازينو...
لا بل إن منطق الصفقات (المافيات) بلغ حد القول بمحاولة بيع سيبيريا الى واشنطن، بعدما كان القيصر ألكسندر الثاني، العائد منهكاً من حرب القرم عام 1867، قد باع آلاسكا الى الرئيس الأميركي أندرو جاكسون. المنظّر الجيوسياسي الروسي ألكسندر دوغين وصف الصفقة بـ"صفقة العار"، بعدما كان لروسيا موطئ قدم في أميركا الشمالية. لامجال الآن، ولا غداً، للحديث عن الصراع المتوازن بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة التي فرضت أسلوب حياتها ( Lifesyle ) حتى على ساكني الأدغال. ما حال التنين الأصفر. نابليون بونابرت كان قد حذّر من يقظة الصين من "الغيبوبة الآسيوية"، لينشر آلان بيرفيت، وزير العدل في عهد الرئيس شارل ديغول، كتابه "عندما تستيقظ الصين يرتعد العالم" (1973 ). الصين خرجت من ثقافة العيون الضيقة والأحذية الضيقة الى العالم باقتصاد يكاد يكون اسطورياً، لتنشب حرب الأسواق بين الصين والولايات المتحدة. هو الصراع بين استراتيجية التسلل من الأبواب الخلفية، واستراتيجية قرع الطبول عند أبواب الأمم. على الخطى الأميركية، أصدرت وزارة الدفاع الصينية كتاباً أبيض لحظت فيه بناء ترسانة عسكرية تضاهي، بتأثيرها الاقليمي والدولي، الترسانة الأميركية، وان أثار ذلك بعض المعلقين الأميركيين الذي رأوا في "أمبراطورية التنين" "أمبراطورية ديزني لاند". من جميع النواحي، انه اللغز الأميركي. الشيء الوحيد الذي لم تنتجه "الماكنة الأميركية" هو لغة تجمع بين كل لغات العالم، لتعتمد اللغة الانكليزية، ما حمل الروائي البريطاني تشارلز ديكنز على القول "لقد خرجنا من يوميات الأميركيين لكننا بقينا على ألسنتهم". لا أمبراطورية مماثلة. قيل "أمبراطورية آدم"، كونها تضم كل الأجناس، وكل الثقافات، وكل الحضارات. اذاً، ما هي القوة السحرية التي جعلت ذلك الكوكتيل السريالي يتحول الى مجتمع واحد، عابر للأمكنة، وعابر للأزمنة. هل هو المال أم هو البحث عن "الفردوس المفقود" الذي كتب فيه الشاعر الأنكليزي جون مياتون قصيدته الشهيرة. بشكل ما، بصدفة ما، بأعجوبة ما، تشكلت أمبراطورية. كل الذين كتبوا عن تاريخ الأمبراطوريات رأوا أن كل أمبراطورية تحمل في ثناياها عوامل فنائها. لكن الرئيس رونالد ريغان تحدث عن "دورنا الأبدي". العبارة التي أوحت لمنظّري "المحافظين الجدد"، وبينهم روبرت كاغان، بأن يميّز بين الأميركيين، أبناء المريخ، والأوروبيين، أبناء الزهرة. ماذا عن الآخرين ؟ الاجابة الفظة لجون بولتون "حثالة وتندثر باندثار الأزمنة". الآن، كلام كثير عن دونالد ترامب على أنه الرجل الذي يسحق "الدولة العميقة". البعض يسأل ما اذا كان هو ذلك الكائن الذي تقول أساطير الهنود الحمر، انه يحرق الشمس والقمر، أي يحرق أميركا. المتحدث باسم الحملة الانتخابية لكامالا هاريس كيفن مونيوز قال إن ملايين الناخبين اختاروا مرشح الحزب الجمهوري خشية أن تؤدي خسارته الى انفجار دموي في سائر أرجاء البلاد. يسحق الدولة أم يسحق الدولة العميقة التي تختزل، بشكل عام، بـ"المجمع الصناعي ـ العسكري" الذي حذّر منه الرئيس دوايت ايزنهاور في خطبة الوداع عام 1961 ؟ غالبية من قالوا بتحويل بلدانهم الى قوة عظمى، أو القوة الأعظم، إنما قادوها الى الجحيم. لن تكون أميركا، في حال من الأحوال، "أمبراطورية أفلاطون"، هل تكون، بأخلاقياتها، "أمبراطورية جنكيز خان" ؟
لا أحد يتصور أن ذلك التناغم الأوركسترالي بين مراكز القوى (البنتاغون، أجهزة الاستخبارات، الشركات والمصانع الكبرى، وول ستريت) سيبقى الى الأبد. لا بد أن يكون هناك قابيل وهابيل. وعلينا أن نستنتج ما يمكن أن يحصل عند منتصف القرن أو في نهاية القرن. هل يمكن لناطحات السحاب في نيويورك أن تتحول الى... خنادق؟