سعد العبيدي
يُعد بناء الجيوش من أعقد المهام التي تواجه الدول في عالمنا الحالي وطوال الزمن، إذ يقتضي تحقيق توازن دقيق بين تلبية الاحتياجات النفسية والمهنة للجندي والضابط أي المنتسب، وبين تحقيق الولاء المفروض للوطن.
التجربتان المتقاربتان زمنياً والمتجاورتان جغرافياً والمتشابهتان في النتائج لما يتعلق بالأداء القتالي للجيش في أوقات الأزمة في العراق وسوريا، تُظهران كيف يُمكن أن يكون للوهم الذاتي لدى القادة المعنيين بإدارة الدولة أثرٌ كارثي على أداء الجيوش، وبقاء الدولة.
في العراق، بدأ النظام الجديد للدولة عام 1968 بتشكيل جيش عقائدي يعتمد على الانتماء والتعبئة الحزبية، متوهماً أن الشحن الفكري بالأيديولوجيا الاشتراكية والعدالة الاجتماعية كافٍ لتعزيز الدافعية القتالية لدى الجنود، متجاهلًا تمامًا الضرورة الحتمية لإشباع الحاجات النفسية الأساسية للعسكري، مثل الشعور بالكرامة والتقدير الفردي القيمي والاعتداد بالذات المهنية، وركز على الولاء الحزبي وتملق القائد الأعلى، بدلاً من تعزيز الهوية الوطنية والانتماء العسكري. وفي أول اختبار عملي عام 1991، انهار هذا الجيش تماماً، متسرباً من مواقع القتال، تاركًا أسلحته سالمة في أماكنها، رافضاً من الناحية النفسية الدفاع عن نظام لا يؤمن به، مقتنع بقرب سقوطه. إلا أنه ورغم هذه الإخفاقات، عاد النظام لإعادة بناء الجيش بالطريقة ذاتها، متجاهلاً دروس الماضي، وعبر أحداث ذاك العام المذكور، وتكررت النتيجة ذاتها عام 2003، إذ لم يقتصر الأمر على انسحابه جيشا للدولة من مواضعه، بل مهد انهياره الشامل الطريق لسقوط الدولة ذاتها، ما يعني وبما لا يقبل الشك أن الاعتماد المفرط على الأيديولوجيا في بناء الجيش وقدرات الدولة، يُعرضه أي الجيش لضعف نفسي، يجعله عاجزاً عن مواجهة الضغوط الحقيقية، حيث تتناقض الولاءات الفردية مع متطلبات الدفاع الوطني.
في سوريا، تكررت المأساة بنهج مشابه، إذ بُنيَّ الجيش على أساس الولاء العقائدي نفسه، وأهملت الحاجات الأساسية والمهنية، وتبين في المواجهات الدائرة في وقتنا الراهن، سلوكًا للمنتسبين، غابت فيه الدافعية القتالية، وتصرف كثير منهم بعقلية المشلول نفسياً، ترك البعض أسلحتهم وتراجعوا من ساحات القتال، مما أحدث حالة من الارتباك على مستوى الدولة وحلفائها في المنطقة، وهو ارتباك ومستوى أداء ليس سوى انعكاس لتجاهل الحاجات النفسية الإنسانية للفرد المنتسب في بناء العقيدة العسكرية، واعتماد القادة على أوهامهم الذاتية بأن الولاء الأيديولوجي كافٍ لبنائها. وتبين أيضًا ان وهم الذات في بناء الجيوش يقوم على افتراض خاطئ بأن الأفكار المجردة تُغني عن تلبية الحاجات النفسية الأساسية، إذ إن الجندي، بوصفه إنساناً، يحتاج إلى شعور عميق بالانتماء الوطني، الذي يتجاوز الانتماء الحزبي، وإلى دعم نفسي يُعزز شعوره بالقيمة والكرامة. ويتبين كذلك إن عدم إدراك هذه الحقيقة من قبل القادة يدفع الدول إلى بناء جيوش تبدو قوية ظاهرياً، لكنها هشّة داخلياً، ما يؤدي إلى انهيارات متكررة عند مواجهة الأزمات تمهد إلى انهيار الدولة.