صراعات القوى والانهيار الاقتصادي

آراء 2024/12/09
...

سوسن الجزراوي

منذ عقود وعقود، ولربما من الأجدى أن نقول: قرون وقرون، لم يدّخر الإنسان جهدا في الخوض بأزمات وصراعات وحروب كان هو الخاسر الاكبر فيها حتى وان رفع راية النصر عاليا !
فلا أحد يمكنه أن يدرك إرهاصات تلك المطاحن العنيفة وحجم التضحيات المبذولة، إلا من عاصر الواقع أولا بأول، وعانى من تفاصيل ما تخلفه من ويلات .
فمنذ الحروب الدينية والحرب العالمية وغزوات المغول وحروب الممالك الثلاث وغيرها من المطاحن التي أجهزت على الارواح وجعلت أكثر من نصف اطفال العالم يتامى، كان القاسم المشترك الأعظم هو تداعيات الاقتصاد وانهيار منظومته.
فالحرب، اضافة إلى خسائرها البشرية فهي تتسبب بخسائر اقتصادية كبيرة، نتيجة ما يحدث خلالها من استهداف للأبنية والمصالح التجارية، وما يبذخ فيها من ارقام مهولة في سوق السلاح، وما يولد من فقر وبطالة بسبب انهيار البنى التحتية والمنظومة الاجتماعية كلها .
وتتسبب المعارك بوقف دوران عجلة الحياة، كما تعاني الدول المتحاربة من أزمات مالية قاتلة بسبب نفقات الحرب الباهظة، وتزداد مديونتها، وربما تتراجع هيمنتها الاقتصادية .
ويرى الكثير من الباحثين بهذا الشأن، أن العلاقة بين الحرب والمنظومة الاقتصادية وثيقة جدا، نظرا لما تحمله الاولى من تكاليف كبيرة، سواء ما كان ظاهرا منها أو كان مخفياً، فالحرب آفة ومحرقة مستعرة لا تعرف الهواد، فهي تلتهم بألسنتها الساخنة، كل المنجزات العمرانية والمصالح التجارية والصناعية والفكرية والإنسانية، مخلفة تحطيم كامل للناحية الاقتصادية، وهذا معروف ولا يُختلف عليه! فالعديد من تجّار الحروب من ناحية، والمتسببون بها من ناحية اخرى، لا يكترثون بما ستؤول اليه النتائج، قدر اهتمامهم بما سيحصدونه من منافع مالية، وليذهب الجميع (إلى الجحيم) .
ولا يمكن تحت أي ظرف ووفق أي منظور، أن نهمّش المصالح الاقتصادية والتي أجزم بلا شك، أنها المحرك الاساس لكل الحروب، فحتى السلطة والهيمنة لا تتحقق دون اقتصاد متين لا يقف على أرض رخوة، فالممتلئ غالباً ما ينتصر !
ولأن الصراعات وفق هذا التحليل، هي اقتصادية حتى وإن غلفتها الشعارات العقائدية والفكرية، صارت بالتالي خاضعة لحسابات التوقيت الزمني، والتخطيط لما هو قادم من تطورات واحداث وانعكاسات وتأثيرات على المشهد الاقتصادي، فغالباً ما تقوم الدول الكبرى بالترتيب للحروب وفق تسلسل زمني مدروس، يهدف بالنتيجة إلى منافع مادية وزيادة في بسط الأذرع على المحيط الجغرافي لموضوع (الصراع) .
ويعد انخفاض عدد السكان نتيجة الموت جراء الحروب، واحد من عناصر التدهور الاقتصادي، الذي يعتمد نموه على وفرة الايادي العاملة لدوران عجلة الانجاز، كما تلعب هذه الشحة، دورا كبيرا في نقص الغذاء وتدهور السوق المحلية، ما يؤدي إلى زيادة الديون واهمال النشاط التجاري والصناعي، ومن ثم استغلال تجار الحروب هذه الثغرة لزيادة ثرواتهم على حساب مصائب الشعوب .
وبشكل عام، فإن الحروب وغيرها من صور الصراع الذي يعتمد الترسانة العسكرية أدوات فعلية لا غنى عنها، تعدّ عائقاً رئيسياً أمام النمو الاقتصادي في البلدان ذات الدخل المحدود، والتي يعاني العديد منها من الصراعات الاثنية والدينية، فالحروب هي تنافس شرس حول النفوذ والسلطة، ما يجعلها مثل طاحونة بحاجة إلى وقود لتشغيلها، وهذا الوقود يعتمد الاموال التي تذهب بالتالي هباءً مع استمرار دوران تلك (الرحى) التي تسحق الاقتصاد والانسان وكل ما هو مهم لديمومة الحياة.