د. خالد عليوي العرداوي
الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة والمجتمع ليس حديثا جديدا، فقد كُتب عن ذلك الكثير، لا سيما علاقة المثقف بالسلطة، لكننا هنا سنركز فقط على علاقة المثقف بالمجتمع؛ لأن المجتمعات التي يغيب فيها دور المثقف أو يضعف تتعرض إلى التصحر الثقافي؛ نتيجة فقدانها روح الابداع والخلق، والارتداد القهقهري في ما تنتجه من معارف وفنون وآداب وأفكار، لتصبح في النهاية ساحة مفتوحة لشتى المظاهر الفكرية والسلوكية البدائية؛ بسبب انشغالها بحاجاتها اليومية وولاءاتها الأولية، فتتخلى - جهلا أو عمدا – عن التفكير في مستقبلها، ولا تتدارس نتائج أفكارها وأفعالها المستعجلة، ولذا تصبح قراراتها - العامة والخاصة- قرارات غير حكيمة وذات تأثيرات سلبية، فالحكمة قُرنت بالتأني والتفكير العميق، والمجتمعات التي تقع في شرك الثقافة البدائية تفتقر إلى ذلك، ولذا تجدها دائمة النزاع والصراع والانتقال من حال إلى حال أسوأ منه. والمثقف هو: ذلك المفكر الواسع المعرفة والاطلاع والاحاطة بظروف بيئته المحيطة، والذي تحرر من القيود الثقافية والمصالح المادية الضيقة لينشغل بإصلاح الشأن العام لمجتمعه. وعليه، لا تطلق كلمة المثقف على من يقرأ ويكتب أو من يحمل شهادة علمية في تخصص ما، بل تطلق على من يكون واسع الاطلاع والمعرفة، ولديه القدرة على التفكير النقدي البناء لما يحيط به، مع استعداده الدائم للانفتاح على الرأي الآخر، والعمل الدؤوب للخوض في حوارات ثقافية تشمل شتى الموضوعات حتى تلك التي يُنظر إليها على أنها من المحرمات أو الخطوط الحمراء التي لا يمكن الاقتراب منها، ناهيك عن امتلاكه الاستعداد الذهني، المعرفي والعملي لصناعة التغيير والتأثير في الرأي العام. إن غياب هذه المواصفات لدى كثير من الناس، على الرغم من امتلاكهم لشهادات علمية مرموقة جعلتهم مجرد متخصصين في علومهم الخاصة، لكنهم غير مفيدين في صناعة التغيير الثقافي الإيجابي في مجتمعهم، ولذا تجدهم عند اهتمامهم -أحيانا- بالشأن العام لا يختلف اهتمامهم كثيرا عمن دونهم في العلم من أبناء المجتمع، سواء في نمط التفكير أو السلوك، وهذا ما جعل الكثير يتساءل متعجبا كيف لهذا الفلان الفلاني... أن يقول ويفعل ما يفعله ذلك الإنسان العادي في المجتمع؟ والجواب هو أن هذا وأمثاله أمسكوا زمام العلم، دون أن يمسكوا زمام الثقافة الحقيقية، فعلت شهاداتهم العلمية عن أقرانهم، ولكن تشابهت عقلياتهم الفكرية معهم، وعندما يشعرون بالفجوة بينهم وبين مجتمعهم؛ نتيجة عدم امتلاكهم مؤهلات التأثير الإيجابي فيه يميلون إلى التعالي عليه بالجلوس في بروج عاجية، دافنين انفسهم في تخصصاتهم العلمية الضيقة أو بين جدران منازلهم لا مبالين بما يحصل حولهم، ومنهم من يميل-أحيانا- إلى التعصب الفكري والسلوكي فتجده منخرطا بالعمل مع تيارات فكرية متعصبة ومتطرفة أو واقعا في فخ البحث عن مغانم سريعة على أبواب رجال السلطة والحكم الفاسدين، غير مبال في أن يصبح بيدقا بأيديهم أو ناطقا رسميا باسمهم. إن الثقافة أشبه بمكونات البناء، والمثقف الحقيقي هو عامل البناء المحترف المشرف على هندستها، ومخرجاته الفكرية والسلوكية تمثل الاسمنت، الذي يربط تلك المكونات؛ لمنحها التماسك والقوة والاستمرار، فضلا عن الإبداع والجمال، وعندما يختفي المثقفون الحقيقيون ويهيمن الزائفون من انصاف المثقفين أو غير المثقفين، تكون النتيجة تشويه البناء الثقافي، وإرباك المجتمع معرفيا وسلوكيا، فتجد كل فرد يضفي على المفردات المتداولة وقواعد السلوك السائدة معاني واعتقادات تحرفها عن مسارها الصحيح أو يصبح أسيرا لمعانٍ واعتقادات بالية تحول بينه وبين التحرر من ثقافة الجمود والتخلف والبدائية. وكلما زاد عدد المثقفين الحقيقيين في المجتمع زادت فرص السلام والمحبة والتمدن والنضوج العقلي، وتطورت منظومة الأخلاق والسلوك الاجتماعي، وامتدت الجسور بين الانسان وأخيه الانسان بصرف النظر عن الانتماءات الفكرية والدينية والعرقية، وحل التعاون والتنافس البناء محل التنازع والصراع الهدام؛ لأن وجود المثقف الحقيقي الملتزم أخلاقيا بدوره يعني اعلاء الاهتمام بالشأن العام على الاهتمام الأناني بالشأن الخاص، مع احترام الحدود الفاصلة بين الاثنين. وعلى الرغم من شكوى المثقفين الدائمة؛ بسبب عدم القدرة على كسر الجمود في مجتمعاتهم، وضعف سبل التواصل معها، فإن التطور التكنولوجي الهائل في الوقت الحاضر، يعطيهم فرصا لم تعط لأقرانهم في الماضي للتحرر من الانعزال أو الوقوع تحت الهيمنة القهرية للقوى والقوالب الثقافية السائدة، من خلال التواصل الهادف مع مجتمعاتهم، وقيادة التحولات الثقافية المؤثرة داخلها، وهذا الامر حيوي ولا غنى عنه، لا سيما في مجتمعات متنوعة عانت من أزمات الدكتاتورية وعدم الاندماج وهشاشة البناء الديمقراطي كمجتمعاتنا.
باحث وأكاديمي