محمد غازي الأخرس
غريبة هي المشاعر التي انتابتني وأنا أضع قدمي على أرض الفندق الوحيد في مدينة السماوة قبل أيام، كنت مدعواً إلى مهرجان السماوة الثقافي، وفي لحظة ما، وجدتني أقف في الفندق ذاته الذي نزلت فيه قبل عشرين عاماً مع فريقٍ تلفزيوني يضمُّ أكثر من عشرة أشخاص بين مصورٍ ومساعدي تصوير ومدير إنتاج ومخرج. في تلك الأيام، بدأت موجة استكشاف لعشرات المقابر الجماعيَّة التي خلفها نظام صدام في العراق. وحينئذ، قررت القناة التي أعمل بها تصوير فيلمٍ وثائقي عن المقابر التي تثوي في قلب الصحراء كالجرح القديم. كانت منظمات حقوق الإنسان العالميَّة قد أطلقت على السماوة تسمية (عاصمة المقابر الجماعيَّة) لكثرة الضحايا المغيبين تحت رمالها.
نعم، أنا في الفندق نفسه، بقاعة استقباله الجميلة، وبغرفه وفضاءاته. قلت لنفسي: يا إلهي، لقد مرت عشرون سنة على تلك التجربة، ما أسرع ذهاب السنين وما أشدّ مرارة ما تبقى منها، لا سيما تلك التجربة القاسية. تخيلوا أنْ يشهدَ واحدٌ “خواف”مثلي نبش مقبرة دفن فيها أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ لم يرتكبوا أي ذنبٍ سوى كونهم كرداً أو شيعة. كانت المرة الأولى التي أرى فيها بأم عيني مثلاً بقايا ثوبٍ ملون كانت ترتديه فتاة كرديَّة قبل التهام العالم السفلي لها.
في الفندق، في آخر يوم لنا، طلبت من دليل المقابر الذي استعنا به أن يدعو أبناء المغيبين وآباءهم وأمهاتهم وأشقاءهم وزوجاتهم، لتسجيل شهاداتهم عن ضحاياهم. وفي الصباح، فوجئت بالعشرات يزدحمون في بهو الاستقبال حاملين فايلاتهم معتقدين أنَّنا منظمة إنسانيَّة. ففي تلك الأيام، شاعت أخبار أنّ السلطة ستعوض أهالي المغيبين أو تكشف عن مصير من لم يعرف مصيره منهم. جاؤوا متأملين ذلك لكنهم لم يجدوا سوى صحفي يريد توثيق مآسيهم لصالح قناة فضائيَّة. لشدها شعرت حينها بتأنيب الضمير! ماذا قالوا لي في تلك الشهادات؟ قالوا الكثير والكثير والكثير. ذات يوم سأوثق ما قالوا في كتاب بعد أنْ وثقته بفيلم “الجحيم”.