فيرونيك غرينوود
ترجمة: مي اسماعيل
يجتمع الناس معاً منذ آلاف السنين في تجمعاتٍ صغيرة؛ لتناول الطعام، فلماذا يُعتبر هذا أمراً مهماً، ولماذا يستمر الناس به حتى اليوم؟ إنه لعالم إنساني غريب. ما زال الناس يحبون الجلوس معاً لتناول وجبة جيدة، فالطعام مع الأصدقاء وحفلات الغداء وتجمعات العطلات واسعة الانتشار والانتظام في المجتمعات حتى لم تعد تستوقف المراقب اجتماعياً، إلا حينما تصبح فكرة عدم حدوثها بشكل واسع رائجة في المجتمع.
فعلى سبيل المثال، كثيراً ما تظهر في وسائل الإعلام تساؤلات ومخاوف عن تناقص معدلات جلسات الغذاء الأسرية، وهناك أدلة على أن مثل تلك المخاوف ليست توجهاً حديثاً، بل لعلها تعود لنحو مئة سنة سابقة. وهذا يعني أن تناول الطعام جماعة ليس بالأمر الشائع فحسب، بل له تأثير إنساني قوي.. ولكن لماذا؟.
أصول تاريخيَّة
من المُرجّح أن تناول الطعام مُشاركة سلوك يعود غالباً إلى أول أصول الإنسان، وكذلك تفعل بعض المخلوقات الأخرى مثل الشمبانزي والبونوبو (وهما من اللبائن) التي تتناول الطعام في مجموعات اجتماعية، كما لاحظ علماء الأحياء. لكن إعطاء الطعام للأشخاص المقربين إليك ليس مماثلاً لتناول وجبة طعام معاً، كما يُشير عالم الاجتماع نيكلاس نيومان من جامعة أوبسالا بالسويد، قائلا: «يمكن أن تقوم بتوزيع الطعام ثم تتناوله دون الجلوس وتناوله جماعةً»، ويبدو أن الإنسان أضاف عدداً من الطبقات الاجتماعية المعقدة إلى ذلك التصرُّف. جرت وجبة الغذاء المشتركة الأولى حول نار المُخيّم، رغم أن أحداً لا يعرف تحديداً متى تعلم الإنسان وأجداده طبخ الطعام. وتتفاوت التخمينات حول ذلك، إذ يرى البعض أن ممارسة الطبخ بدأت منذ نحو 1.8 مليون سنة مضت.
مستوى الرضا النفسي
مهما تكن تفصيلات الأصول التاريخية لتناول الطعام جماعياً فإنها ممارسة ترتبط بمستوى أعلى من الرفاهية، كما وجد «دنبار» في دراسة أجراها عام 2017 وسأل فيها أشخاصاً يعيشون في بريطانيا عن عدد المرات التي يتناولون فيها وجبات الطعام مع الآخرين. سجّل الباحث أن تناول الطعام مع الآخرين بشكل متكرر يرتبط بالرضا الأكبر في الحياة ووجود المزيد من الأصدقاء الذين يمكن الاعتماد عليهم للحصول على الدعم. كما أجرى دنبار تحليلاً إحصائياً أشار إلى أن تلك الوجبات هي التي تسببت في التأثيرات الاجتماعية، ولم تكن نتيجة لها. يقول دنبار: «يؤدي تناول الطعام إلى تحفيز نظام الإندورفين في الدماغ، وهو الأساس الدوائي الرئيس للعلاقات المترابطة بين البشر.
لكن تناول الطعام جماعياً ليس بالحدث المُتّسق البسيط باستمرار، فالمآدب والوجبات التي يجري فيها تقاسُم كمية كبيرة من الطعام قد تكون طرقًا مصممة بشكل كبير لإظهار الخضوع والسيطرة، كما قد يفعل رب العمل في المكتب أو الحقل، حيث يتم التدقيق في سخاء الداعي (أو تقتيره) من جانب الحاضرين. كما أن الوجبات الأسرية الاعتيادية (رغم الثناء عليها) قد لا تخلو بالضرورة من الاحتكاك. يقول عالم الاجتماع نيومان: «إن الناس يستمتعون بالوجبات المشتركة مع الأصدقاء والأحباب، لكنها قد تكون أحياناً تجربة مروّعة؛ فذلك التجمُّع قد يصير مكاناً للسيطرة والتحكُّم كذلك»، فالوجبة التي ينتقد فيها أحدهم قراراتك أو وزنك بانتظام لا تساعد على تحسين مزاجك.
بي بي سي البريطانية