ياسين طه حافظ
حين يموت شاعر أو فنان أو أستاذ متخصص، بعض يرفع من مقامه ويغالي أو ينف كل ذلك ولا يرى جديداً يقف عنده. كل بين ما يرى ويقدر ما انطبع في نفسه عنه أو يكره خصائص منه ولا يحب طباعاً. لكن هل لنا غير الكلمات نتصل بها في العالم أو في الناس، إذا أردنا أن نبوح بما في ضمائرنا أو استجبنا لصيحة في دخيلتنا؟، وهل لنا غير الكلمات نخبر بها سوانا، أصدقاء وغرباء وأقربين نبوح لهم بما نرى أو نفكر؟، وهل لنا نحن البشر من يقول لنا كل الحقيقة، وكل منا لا تخلو رؤيته من نقص وفهمه من قصور وحديثه من غاية؟
وإذا كان الكلام الذي نسمع أو نقول منقوصاً ولا يلمّ بالصورة أو الحال، كيف لنا بالحقيقة وكيف تتحقق المعرفة ونحن نعيش على أجزاء ونتعامل بما هو غير تامٍ ولا مكتمل او مشكوك فيه؟ بعضنا، ربما يستسيغ طباعه هو ومنها طبيعة كلامه هو أو كتابته، وهو مدرك جيداً لما فيها وكم من مواقع غير حقيقية مدّعاة أو مضافة أو مبالغ فيها أو منتقص منها. فإذا سألته، أعلن النكران وزاد المخفي غطاءً وأضاع علينا الشكَّ كما أضاع الحقيقة.
بعض يورث لهم النكران وجعاً وفراغاً من الكرامة والمعنى فيأسف. وبعض هي مهنة مثل بقية المهن وخبزه يأتي كلامه مزيجَ حلالٍ وحرام. لكن مهنة الكاتب هو عزل القش ووضع الثمار في السلال ليقدم للناس ما لا يملكونه أو يعرفونه ونحن نفعل أي شيء لإبقاء كلماتنا قريبة من الحقيقة والأجمل، ونحن نكتب لنهرب من الزيف والأطناب الفارغ والضوضاء والكذب. لا نكتب لنسهم في التضليل.
حسناً لنرفق بالناس، بضعفهم وحاجتهم وافتقاد القدرة لديهم، فهم يتوسلون بما لا يرضي لكي يرضوا ولكي يريحوا أنفسهم من لاعج أو نقص أو جهل. هذا مدخل لإشكال آخر، فتعاطفنا لا يسوّغ لنا أن نسهم في تشويه الحقائق أو دفنها. نريد أن نعرف المزيد عن حقائق الإنسان والحياة ونحن نتطلع أبداً لنرى ما خفي عنا أو أن نراه بوضوح أكثر اكتمالاً ساعة نشكو من العتمة أو الحيرة. وأنت لستَ مستلباً تماماً، لستَ محكوماً بنعم لكل ما يُقال فإنسانيتك متشوّقة للمعنى، للسر، للمفرح والمُرضي. إنسانيتك الكامنة هذه تطالبك بالخبر الصدق والشعور الصدق والحكم الحق. وأنت تكتب، رحّب بالكلمات مبهجة بوضوحها، وحقيقتها، وأما ابتعدتْ أو غابت ظلَّ تبحث عنها، لتكتب ما هو حق وواضح، وليبقَ ما هو لك وللناس جميلاً.
عن نفسي، ليست الكتابة لهواً ولا ترضية للنفس أو للآخر. ولكنها حاجة لأقول: هي تلك! الحقيقة مفرحة ومفرح أن تراها وتعلن عنها. لا أعني حقيقة الفلاسفة ولكن حقيقتي وحقيقة ما أرى وأقرأ وما يمرّ أمامي من لامع ومعتم، من قبح مخفي بأغلفة ذهبيَّة لمّاعة ومن حقائق ومعانٍ تشكو الدفن أو التشويه. الحياة مبهجة وهي نظيفة وسليمة وبلا كذب.
لتكن أعمارنا لنا ولا نخسر منها إلا ما نضطر اليه. أسال الآن: وعمّاذا تدور الكتابات؟، الكتابات التي لا حفيظة وراءها، لا المزوّرة، ولا التي تُستَلَب. اكتب عمّا نخسره أو نكسبه من كتابات كهذه.. على العكس بعض الكتابات بالرغم من العارضة يصل ما فيها من مُضمَر. ونفرح عندما ينقشع الزبد، مؤسف دائماً أن نفقد اللؤلؤة!، الفوضى التي مررت بها، السنوات وغبارها والضجيج وما وراءه وفيه، الاندفاعات الخطأ والأحكام الخطأ كلها تحتاج إلى إعادة كشف قبل أن يتعذر الكلام أو تتعذر الكتابة.
سيقول الشيوخ حسناً، لو اعدنا حياتنا واعدنا محتواها. وسيأتي الجواب: أكتب ما استطعت رثاءً ومحبةً وأسفاً لها وتمجيداً لمن عرفوها.. أكتب ما تراه جديداً ونافعاً وحتى لا تستطيع الكتابة!، ذلك هو البديل الممكن. وسواه تكملة للهوس وللا معنى. يا لكوم الورق الخريفي المكوَّم على الأرصفة، كم وراءك من حقائق! لأني آسف على كثير من الكتابة ومحزون من كثير من القراءة، أشعر كأني ملوّث باللا مجدي واللا ضرورة له، وكأني ملوم أيضاً على الرضا بها حيناً أو الاسهام مع الصاخبين بما ورثوا وبما أوصلوا أو مع اولئك الكثيرين الذين خُدِعوا.
أوصي الآن بالبعد عمّا يبعد الحقيقة ويدفع النقي للوحل، يعلّمه كيف يلتذ بالرداءة ويستسيغ الخداع. كأنّي الآن وأنا أقرأ وأسمع وأرى، أتمنى لو لم يتعلّم الناس صناعة الكذب وإذا كان هذا صعباً على العوام، فليس صعباً على من يحسنون الكلام أو من يحسنون الكتابة، وهم يرون الحقائق تتوسّل ألا يئدوها، فهي حقائقهم وحقائق الحياة التي لا سواها! يوماً قلت لو نتحول الى قصة حب لا قصة انتقام. يوماً قلت، حسناً وعذراً عشنا كما عشنا، لا أعدّد الأسباب ولا الأعذار، لنقل للحياة سلاماً قبل أن نهرم، ولنقل للحياة هذا ما استطعنا، للحقيقة الاحترام، والصديق الأخير هو المعنى وبعيداً عن صناعة الكذب!، ولنقل أخيراً: ذلكم ما أوصتنا به الحكمة، ما نقلته لنا خبرة الذين عرفوا ورأوا. كثيرات هي الأقوال والوصايا. لكن، ولكي لا نكتفي بما قلنا، هذا "ييتس"، أعظم شاعر في عصرنا، يقول عنه إليوت، أدرك من قبل ما نشير إليه اليوم:
"علينا أن ندرك أن الجمال والحقيقة يسوّغان وجودهما، وأن خلفهما خدمة وطنية أعظم بكثير من تلك الكتابة التي تساوم في الجمال والحقيقة وهي تخدم غرضاً آخر...".