أ.د عامر حسن فياض
يقال إن الكلمات كثيرة التداول والاستخدام غامضة المعنى وصعبة التفسير. وقد انتج العقل البشري الكثير من المفاهيم الجديدة، التي حظيت بالانتشار في شتى الاوساط والبيئات وباتت حاضرة في كل انواع الخطابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والادبية والفنية والتقنية والعلمية. ولم تكن يوماً من مشكلة في انتاج المفاهيم وانتشارها أو في اضمحلالها وغيابها لا في هذا العصر ولا في أي عصر سبقه، لكن المشكلة كانت دوماً في الاختلاف بشأن معاني المفاهيم ودلالاتها ومقاصدها البريئة وغير البريئة. وكان من بين مجموعة المفاهيم التي حظيت بالانتشار والتداول مصطلح العولمة وهو مفهوم ينفرد بسمات يتميز بها وهي :
• اتساع دائرة تداوله وانتشاره بشكل مفرط، ليصبح أكثر المفاهيم استخداما وشهرة ويغدو الصفة المميزة للقرن الحادي والعشرين مثلما كان وسيكون لكل قرن أو عصر صفته المميزة له واللصيقة به.
• امتداد حدوده الدلالية والغائية ناهيك عن حدوده الجغرافية لتحتوي كل مظاهر الحياة المعاصرة ونشاطاتها وتغطي عامة تطبيقاتها العملية ومفاهيمها النظرية على تعددها وتنوعها.
• استبطان حقوله الدلالية ومقاصده الغائية لجملة دلالات ومقاصد المكونات الاخرى في منظومة المفاهيم المعاصرة وارتباطه بمكونات تلك المنظومة ارتباط الكل بالجزء أو الاصل بالفرع لتثبت بثباته وتتغير بتغيره.
وإذ وسعت هذه السمات حدود العولمة ومفهومها وعمقت تأثيراتها، فإنها جعلت منها إطاراً عاماً لكل عناصر الحياة المعاصرة وأنشطتها وأفكارها ومرجعا تأسيسياً لها، يمدها بمقومات الوجود وشروط الاستمرار والفاعلية. ومن ثم فقد غدت أية محاولة لتحديد معان وغايات المفاهيم المعبرة عن طبيعة هذه الحياة وخصائصها مرهونة أولا وأساسا بالتحديد والتعيين المسبقين لمعاني العولمة وغاياتها، باعتبارها إطاراً لتلك المفاهيم ومرجعا لها لتكون البداية دائما من العولمة وبها ومعها. لذلك فإن من ألزم اللزوميات تحديد مفهوم العولمة ومعانيها وغاياتها ومتغيراتها ودواعيها الضاغطة على كل مكونات الحياة المعاصرة والمؤثرة في جميع مفاصلها، بشكل يجعل منها أهم العوامل الفاعلة فيها على المستوى الاجتماعي الأهلي- المدني والمستوى السياسي الحكومي – السلطوي.
لقد قيل إن العولمة "مفهوم مجرد مركب يعني الكثير ويختلف معناه لدى الكثيرين"، وذلك صحيح ولكنه لا يعني بالضرورة افتقار هذا المفهوم الى المعنى كلياً. فالعولمة على المستوى اللغوي مصدر صناعي من (عالَم أو كون) ويعني في حال استخدامه غلبة الطابع العالمي أو الكوني على الظواهر والنشاطات الفكرية والعلمية، بما يسمح بوصفها بأنها ظواهر ونشاطات عالمية أو كونية، والعولمة في ذلك مثلها مثل المصادر الصناعية الاخرى مثل المكننة والعسكرة والمأسسة، التي تعني اكتساب ظواهر ونشاطات معينة طابعا ميكانيكيا أو عسكريا أو مؤسسيا. وحيث إن أية ظاهرة أو نشاط جزء من مجموعة من الظواهر أو الانشطة المترابطة والمتكاملة والمتفاعلة التي تكوّن بمجموعها علاقاتها وتفاعلاتها بناءً أو نظاما كليا مميز الطبيعة والمكونات والخصائص والوظائف والاهداف. فإن عولمة مجموعة من الظواهر أو الانشطة التي تتسم بطابع محدد ومميز، تعني ضمنيا عولمة النظام الكلي الذي يجمعها ويوحدها ويربط بينها وجملة مكوناته وخصائصه ووظائفه وأهدافه المتكاملة والمتداخلة والمتفاعلة ليمتد هذا النظام وينتشر عالميا. وباشتراط غلبة الطابع العالمي على اي نظام ليصبح بذلك مستحقا لوصف النظام العالمي، فستكون العالمية شرطا لازما وضرورة حيوية لخروج هذا النظام وكل نظام آخر غيره من المحلية ومحدوديتها الى العالمية واتساعها، طالما أن استهداف أي نظام للعالمية وبحثه عنها وسعيه إليها يتطلب منه ويفرض عليه مد حدوده وتوسيعها لتشمل في اطارها وتستوعب كل ما يمكن لهذا النظام الوصول اليه من مكونات العالم وانشطته، ليخضعها لسلطته وتأثيره ويعيد تشكيلها تبعا لطبيعته وحاجته بما يجعلها متوافقة مع عناصره وخصائصه ومتطابقة مع وظائفه وأهدافه، وبذلك يتوحد النظام مع العالم وفيه توحيدا ذاتيا وموضوعيا سلما أو قسرا.
وإذ تتطلب عالمية اي نظام وتفترض وتستلزم الانتشار العالمي لظواهر هذا النظام ونشاطاته، فقد كان من المحتم ان يحدث ترادف ولو جزئي بين دلالات مفاهيم العالمية والعولمة وان يصبح معنى كل منها ودلالاته، لو نسبيا، اختزالا لمعنى المفاهيم الأخرى ودلالاتها. وليس هذا الترادف بالأمر الجديد، فقد ترادفت من قبل دلالات العالمية والعولمة والنظام العالمي وغاياتها في العصور، التي ظهرت فيها أديان أو فلسفات ونظريات ذات طبيعة انسانية عامة وشاملة سعت لنشر دعواتها العقائدية في أوسع مساحة ممكنة من العالم بشريا وجغرافيا، الأمر الذي ترافق احياناً مع إقامتها لدول ذات انتشار أو امتداد عالمي تقترن فيها عالمية أو عولمة العقيدة بعالمية أو عولمة الدولة. فإن قيل إن انتشار تلك العقائد كان على قاعدة العالمية وليس العولمة، استنادا الى التمييز بين العالمية والعولمة باعتبار ان الاولى تعني الانتشار العالمي القائم على الاعتراف بالآخر والاستعداد لمعايشته والانفتاح عليه والتفاعل معه ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وقبول خصوصيته واحترامها وحمايتها، بينما تعني الثانية الانتشار العالمي القائم على عدم الاعتراف بالآخر وعدم الاستعداد لمعايشته والانفتاح عليه والامتناع عن التفاعل معه ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وإنكار خصوصيته واختراقه كليا لتطبيعه والهيمنة عليه وتكريس تبعيته للأقوى. فإن ذلك وإن كان صحيحا لا يلغي حقيقة أن العولمة كما يرى أحد الباحثين "ذات صلة وثيقة بالعالمية والتكثيف المكاني والكونية والتجانس"، فالعولمة والعالمية، مع الاقرار بما بينهما من اختلافات، تشتركان في النهاية في خاصية الانتشار العالمي كخاصية وشرط ومقوم أساسي لهما جوهره وفحواه دمج ما أمكن من أجزاء العالم وتوحيدها وجعلها عالما واحدا قائما على فكر واحد ونظام واحد، لتكون العالمية شرطا للعولمة ومنطلقاً لها على الرغم من عدم تطابقهما بل وتناقضهما وتعارضهما احيانا. كما ترادفت من قبل ايضا دلالات وغايات مفاهيم العالمية والعولمة والنظام العالمي مع دلالات وغايات مفاهيم اخرى مثل "السلام الروماني" ومن بعده "السلام البريطاني"، التي كانت تشير الى الانتشار العالمي للسيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لهاتين الامبراطوريتين على أوسع رقعة يمكنهما السيطرة عليها من العالم القديم أو الجديد، لتكون سياسات الانتشار العالمي شرطا وضرورة لنجاح تلك الاديان والافكار والامبراطوريات في مساعيها الرامية للعالمية أو العولمة على حد سواء.