نبيه البرجي
لكأن حجر قايين ظل يتدحرج عبر الأزمنة ليستقر في عقر دارنا، والا كيف لهذه المنطقة أن تبقى، وبعد مئة عام من انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية، نقطة التقاطع بين لعبة الأمم ولعبة القبائل، حتى ليبدو أن الحرب العالمية الثالثة تجري، على دفعات، فوق أرضنا، وفوق جثثنا، ولكن لمصلحة من؟.
بعد الزلزال السوري، وقد بدا المشهد الشرق أوسطي، وهو الذي يضج بالاحتمالات، أكثر ضبابية، نستعيد بعض المقتطفات من محاضرة الباحث الاستراتيجي والضابط الاستخباراتي الأميركي السابق ماكس مانوارينغ، في تل أبيب، عام 2018. بحضور عدد من كبار الضباط الاسرائيليين والأطلسيين.
المحاضرة كانت حول الجيل الرابع من الحرب، وبعنوان "دع عدوك يستيقظ ميتاً". هنا ليس الانقضاض الصاعق على العدو قبل انهاكه داخلياً ليتآكل على نحو بطيء، حتى اذا ما أزفت الساعة، تبدأ العملية الصاعقة التي تطحن فيها عظامه، مع التحلل الكامل من أية ضوابط، أو أية قيم، أخلاقية. قال "قد تشاهدون أطفالاً أو كباراً في السن. لا تكترثوا، ولا تتركوا الأحاسيس أمام تلك المشاهد تحول دون تحقيق الهدف".
هذا ما كان جوهر السياسة الاسرائيلية ان حيال غزة، أو حيال لبنان. بطبيعة الحال بالتنسيق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، ودون اغفال التداخل الايديولوجي، بين البلدين.
كل الأسئلة، الأسئلة الخطيرة، على الطاولة. واقعاً تغيّر الشرق الأوسط. لمصلحة تركيا أم لمصلحة اسرائيل، أم لمصلحة المايسترو الأميركي ؟ الغريب ألاّ يطرح سؤال من قبيل "... أم لمصلحة الدول العربية ؟"، لنتوقف عند قول فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي، الذي رأى أن مشكلة المنطقة هي في فائض التاريخ، كما في فائض الايديولوجيا .
هذا ما أدى إلى اندلاع صراعات لولبية لا تفضي إلى مكان باستنزاف مروع للدول، وبانفاق تريليونات الدولارات على تكديس الأسلحة، ودون أن تقوم منظومة دفاعية عربية، على الأقل انطلاقاً من ميثاق الدفاع المشترك (18 حزيران / يونيو 1950 )
منطقة رأى فيها ونستون تشرشل "الفردوس النفطي"، بعائدات مالية هائلة، لم تتمكن لا من بلورة رؤية سياسية متعددة الأبعاد، ولا من بناء اقتصاد متعدد الأبعاد، ليقول لنا الباحث الاستراتيجي المصري جمال حمدان "لكأننا ندخل إلى القرن على ظهر وحيد القرن".
لا شك أن الحقبة العثمانية التي امتدت لأربعة قرون، دفعت بنا إلى الأقبية، كما يقول المؤرخ فيليب حتي، حين كانت أوروبا تخرج من القرون الوسطى، وتفتح النوافذ على "الزمن الآخر"، وان كان تفاعل الفلسفات، وتفاعل الأسواق، ناهيك عن تفاعل التوتاليتاريات، قد أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، ليقول المستشار الألماني كونراد ادينارو "الآن، آن الأوان لنغتسل من الخراب، ومن الدم، ولتكن ساعة صناعة الحياة".
كنا قد قلنا ان المستوطنين اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين، منتصف القرن التاسع عشر، بصفقة غامضة بين البارون دو روتشيلد ورئيس الوزراء البريطاني كليمنت ميترنيخ، فكروا، عام 1912، بانشاء "التخنيون"، أي "معهد اسرائيل للتكنولوجيا"، ليفتتح في عام 1924. ها أننا بعد نحو قرن من الاستقلال، أين هو معهد التكنولوجيا العربي، لنواجه بتحذير من نائب سابق للبنك الدولي روبرت زوليك من "أننا نتجه إلى تلك اللحظة التي تغدو فيها البلدان اللاتكنولوجية عالة على الجنس البشري".
وكانت مجلة "الايكونوميست" قد لاحظت أن الصراعات الأبدية في الشرق الأوسط، وبتلك الحمولة الماورائية، أحدثت تخلخلاً بنيوياً في كيفية بناء الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية، كذلك في الايقاع السوسيولوجي للمجتمعات ما جعل بعض بلدان المنطقة على أبواب جهنم.
من هنا كانت صناعة السيناريوات الخاصة بتعليب، شعوب المنطقة، باغراقها في أزمات سريالية، تحول بينها وبين اي دور في "ادارة الأزمنة". تالياً أن تدفعنا الايدي الغليظة إلى العربة الأخيرة من القطار، ودون أن يسمح لأي دولة عربية أن تحذو حذو ألمانيا، الخارجة، للتو، من االحطام، (الكاتب غانتر غراس كتب عن "أنين الهواء")، بأن تكون القاطرة الاقتصادية لعالم عربي يضم دولاً سقطت في دوامة الدم، ودون أن يكون هناك من افق للخروج من هذه الدوامة.
بعد الزلزال السوري، بتداعياته البعيدة المدى على المحيط (في ظل الحديث عن صفقة دولية ـ اقليمية متعددة الرؤوس، ومتعددة المصالح)، وقبل اسابيع من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في عربة ملكية، أي سيناريوهات للمنطقة؟
الاجابة حتماً ستكون من الساحة السورية، وحيث من يضمن ألاّ يندلع الصراع على التركة السياسية، والتركة الاستراتيجية.
حالنا، بين ثقافة اللامبالاة، وثقافة الاجترار. التراجيديا العربية الكبرى تعدت التراجيديات الاغريقية الكبرى، وعلى أمل ألّا نعود أربعة، أو خمسة، قرون إلى الوراء، أقول، كلبناني تحت الأنقاض، أو فوق الأنقاض، هذه ساعة لصناعة الحياة. ولعلكم تعلمون ما رأي دانتي، صاحب "الكوميديا الالهية"، في أولئك الذين آثروا البقاء تحت الحياة... البداية بإخراج حجر قايين من عقر دارنا!.