عادل الجبوري
لعل الكمّ الهائل من الدراسات والابحاث التي تناولت قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان، وشرعية النظم السياسية الحاكمة، والتنمية بشقيها السياسي والاقتصادي في العالم الثالث- والعالم العربي على وجه الخصوص- خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الحالي، كان متناسبا مع عمق المشكلات والأزمات والتحديات، التي واجهتها مجتمعات عديدة، كان البعض منها خارجا للتو من سلسلة تجارب مؤلمة ومأساوية في ظل السيطرة العسكرية والهيمنة السياسية الاستعمارية، في حين كان البعض الآخر يعيش مرحلة الانتقال من الحلم إلى الحقيقة!.
لكن من الناحية الكيفية- النوعية كان ذلك الكمّ الهائل، وربما حتى الان، قاصرا إلى حد كبير عن فهم واستيعاب وتفسير أبعاد وجوانب الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، سواء في اطاره النظري، أو على صعيد المعالجات العملية لمكامن الخلل والقصور والنقص فيه.
وفي كلا الجانبين، الاطار النظري والعملي، كان المطروح هو اما تبرير وتسويق لسياسات الانظمة الحاكمة بأسلوب "علمي وموضوعي" تطغي عليه في بعض الاحيان نزعة فلسفية تمنحه قدرا من الجاذبية والقبول، واما تنديدا ورفضا لتلك السياسات، يفتقر إلى الحجج والبراهين والأدلة العلمية المقنعة لاستغراقه في استخدام لغة خطابية جوفاء تفتقر إلى المضمون والمحتوى الرصين، ولا يفضي - أي التنديد والرفض- إلى أية نتائج إيجابية على أرض الواقع، فضلا عن كونه يفتح جبهات مواجهة مع الانظمة الحاكمة، تتسع شيئا فشيئا حتى تبلغ الأمور الحافات الخطيرة، أياً كان موضوع الخلاف أو الاختلاف.
وقد تقتضي الموضوعية القول إن القراءات والتحليلات الخارجية للتداعيات والإرهاصات، التي عاشتها معظم مجتمعات العالم الثالث بدت في معظم الأحيان ملامسة للواقع وقريبة منه إلى أقصى الحدود، مع الإشارة إلى ملاحظة ضمن هذا السياق، وهي إن القراءات والتحليلات الخارجية، لا يهدف من ورائها إلى إصلاح أوضاع خاطئة وسيئة، وإنما يتمثل الهدف في زيادة معرفة الآخر بعوالم يهمه كثيرا ما يجري فيها بحكم تشابك المصالح وتداخلها.
ولأن التجارب الديمقراطية في الغرب قطعت أشواطا طويلة إلى الأمام وأوشكت بنظر الكثيرين أن تبلغ القمة، مترافقة مع تحولات اقتصادية واجتماعية، وحتى فكرية، ساهمت إلى حد ما في خلق أوضاع وظروف بدت في ظاهرها مستقرة، فإن الربط بين الديمقراطية - كنظرية وممارسة- من جهة، ومفاهيم اخرى من قبيل حقوق الانسان والحرية والتنمية من جهة أخرى، كان وما زال أمرا طبيعيا ومألوفا ومن اليسير رصده في الأدبيات السياسية والإعلامية، ومن على منابر المؤتمرات والملتقيات والندوات بعناوينها المتنوعة، وكذلك في الشارع.
ومن هنا فإننا حينما نتحدث عن رؤية غربية لموضوعة التنمية مثلا، فهذا من دون شك يعني أننا نتحدث عن الديمقراطية بكل جزئياتها وتفاصيلها.
ورغم الاهداف والاجندات السياسية لكثير من المراكز والمؤسسات الاكاديمية الغربية، إلا أنه لم يكن غريبا أن نجد أن عددا كبيرا من دراساتها وبحوثها بهذا الشأن تصبح مصادر ومراجع أساسية لفهم جانب من التفاعلات حتى بالنسبة للذين يعيشون في خضمها، مثلما أصبحت الهياكل والبنى الديمقراطية في التجربة الغربية نماذج صالحة للاستنساخ والنقل والاستعارة، بحيث لم يعد عسيرا على المرء أن يرى أو يسمع في أية دولة من دول العالم الثالث عن وجود برلمان ومجالس محلية وسلطات قضائية ووسائل إعلام بعناوين ومسميات متعددة.
في مقابل ذلك، فإن ما يمكن ملاحظته أيضا هو أن الانظمة السياسية، التي استنسخت أو نقلت أو استعارت جوانب من التجربة الغربية في الديمقراطية انشغلت كثيرا وانشدت إلى المظاهر الجذابة لتلك التجربة، ولم تكن معنية ولو بدرجة قليلة بمضامينها، ولا كانت مستعدة للتعاطي الجاد معها.
ولعل المجتمعات العربية، التي شهدت خلال العقدين المنصرمين، تحولات سياسية كبرى، خلفت صورا ما زالت غامضة ومشوشة، تحتاج إلى الاستفادة من التجارب السابقة لها حتى تختصر الزمن، وتتجنب تبديد المزيد من الطاقات والموارد والامكانيات، وهي تسعى إلى صياغة نماذج حكم رشيد، وادارة جديدة تختلف كل الاختلاف عن النماذج السابقة.
بعبارة أخرى التأسيس للديمقراطية، والتنمية السياسية، والازدهار الاقتصادي، والاستقرار المجتمعي على انقاض الدكتاتورية والتسلط والاستبداد وحكم الحزب الواحد، يتطلب وقتا طويلا، واستحقاقات وكلفاً وتبعات وأثماناً باهظة.