د. مزهر جاسم الساعدي
تذكرت أم صالح وصويحباتها من الجارات وتذكرت أحاديثهم اليومية وانا اشاهد الكم الهائل من البرامج السياسية من على القنوات الفضائية العراقية، اذ لا يختلف حديث بعض (المحللين- المحللات) عن جلسات (الدربونة)، لا سيما وبعضهم ضيوف فوق العادة على الفضائيات، فهم البارعون في الاقتصاد وفي السياسية وفي القانون
وفي الاجتماع.
رحم الله جارتنا (ام صالح) أيام التسعينيات من القرن المنصرم (وهي تستحق الرحمة فعلا)، اذ كنت أسمع ملخصات الاخبار السياسية والاقتصادية والتقلبات الاجتماعية والتربوية ومشكلات الفساد، الذي استشرى عبر حديثها اليومي الذي كانت تديره مع صويحباتها من الجارات الاخر، كن يسند ظهورهن على حائط بيتنا وتحديدا عند شباك غرفتي المطل على الدربونة. لذلك لم أكن بحاجة إلى سماع الأخبار من مصادر أخرى، لأنهن كن يجلسن في غرفتي تقريبا لم يفصلني عنهن سوى الواح الزجاج للشباك. تبدأ حديثها عن دهن الحصة وسعر البيض وتكلفة الإفطار الصباحي ومعاناتهم مع طحين الحصة التموينية فضلا عن عدم كفاية الطحين والسكر والدهن، ثم تعرج مسرعة على تقلبات سعر الصرف للدولار وتأثيره على غلاء بعض المواد التي تحتاجها العائلة لاسيما ان كانت من العائلات الكبيرة، وكيف ان بعض التجار يستغلون هذا الارتفاع لاحتكار بعض المواد، ثم تحلل قضية الاحتكار ومدى خطورتها على المحتكر دينيا واجتماعيا، وتضرب الامثال عن ذلك بالعائلات التي اشتهرت وماذا حل بها من سوء التوفيق، تقاطعها إحدى جليساتها بحديثها عن رفيق (سبهان)، الذي كان يسكت عن بعض الباعة في السوق وهم يرفعون الاسعار دون وازع أو رقيب لأنه ببساطة كان يأخذ (المقسوم) منهم كي لا يكتب عليهم تقريرا لفرقته الحزبية، وينصرف الحديث عن الكيفية التي كانت تعيش فيها عائلات الرفاق لأنهم يتلقون بعض الحصص الإضافية أو يتحصلون على بعض الأموال، ثم تردف أخرى قائلة عن السبب في ذلك كله أن أمريكا وصدام متفقين على تجويع الشعب العراقي واذلاله وهم وابنائهم يتنعمون بخيرات العراق ونفطة. وهنا تبادر أم صالح عن لعنة العراق من جراء وجود النفط اذ انها لم تستلم إلى الان حصتها من النفط المخصص بالكوبون وتشكو حالها من صرف (اللاله والبطل) لحصة كبيرة من مخزونها النفطي، ثم تتذكر (جاسم) ابنها الأصغر وهو في الساتر اذ لا تعرف بحاله، هل لديهم ما يدفيهم وهم في العراء أو مايشبعم من طعام، كيف يسترون أجسادهم وهم يشترون البدلات العسكرية على حسابهم الخاص اذ ان العديد من الضباط كان يأخذ الحصة الكبرى من المواد، التي تخصص للجنود ويرسلها إلى بيته واقاربه، وتناغمها في ذلك إحدى جليساتها بعدم حصر موضوع الفساد على الضباط لوحدهم فهناك (جابر) موظف البلدية الذي ما أن يرى طابوقة أو اسمنت في الشارع الا وقد جاء ليأخذ حصته من أهل الدار كي لا يبلغ عنهم بكونهم قد رمموا بيتهم دون اصدار إجازة الترميم . يستمر الحديث دون انقطاع لكنه حديث مسيطر عليه، إذ إن أم صالح كانت بارعة في تنظيم الحديث والسماح لمن يبدي رأيه بالمقاطعة، ثم ينفض المجلس دون مشاجرة تحت شعار (الاختلاف في الراي لا يفسد في الود)
تذكرت أم صالح وصويحباتها من الجارات وتذكرت أحاديثهم اليومية وانا اشاهد الكم الهائل من البرامج السياسية من على القنوات الفضائية العراقية، اذ لا يختلف حديث بعض (المحللين- المحللات) عن جلسات (الدربونة)، لا سيما وبعضهم ضيوف فوق العادة على الفضائيات، فهم البارعون في الاقتصاد وفي السياسية وفي القانون وفي الاجتماع. وكأن العراق قد عقم من وجود آخرين غيرهم يمكن لهم الحديث كل في اختصاصه، وكأن في استضافة مثل هؤلاء امرا مقصودا، إذ إن معيار المشاهدات وعدد المتابعين لمثل هؤلاء صار هو الأهم عند (إقطاعي) بعض الفضائيات بغض النظر عن التهريج، الذي يحدث أثناء بث الحلقات ومدى تأثيره السلبي على ذائقة المجتمع. إن العديد ممن يطلون علينا عبر بعض الفضائيات العراقية تحت عنوان المحلل السياسي أو الاكاديمي، هو لا يختلف كثيرا عن حديث (أم صالح)، بل إن بعض مقدمي البرامج لم يكن احسن حالا منها حين يفلت زمام الأمور من بين يديه لتصل حلقته المبثوثة بشكل مباشر إلى التراشق بالشتائم والكلام البذيء ما يؤدي إلى انسحاب بعض الضيوف دون اكمال الموضوعات الأخرى المخصص مناقشتها في الحلقة. وأظن أن الفرق بين أم صالح وبين بعض المحللين أنها كانت أكثر صدقا وأكثر تشخيصا للواقع بكونها تحلل القضايا والموضوعات لأنها تعيشها يوميا وتلاحظ ارتداد تلك الازمات على عائلتها.