الثقافة التي تهيمن على العالم بوجه الإجمال الآن هي الثقافة الغربية، ولا سيما ان عصرنا هو عصر الصورة والسرعة والعولمة ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي. لكن مجتمعاتنا العربية تتميز عادة بانها مجتمعات تميل الى القطعية، فهي اما ترفض شيئا ما رفضا تاما، او تقبله بحماس، ومن النادر التحلّي بموقف نقدي في الفكر والممارسة يجعل تمييز الحسن من الرديء امرا جوهريا. هذا فضلا عن ظاهرة اخرى يمكن ملاحظتها بكثرة، وهي مجاراة الموضات العالمية (الغربية اساسا) ما دامت تتعلق بالجوانب السطحية لا العميقة. وشيء من هذا يمكن ملاحظته في مختلف المجالات، بما في ذلك مجالات الفكر
والفلسفة.
موضات الفكر
فالمعنيون بالفكر والفلسفة في ثقافتنا العربية كثيرا ما يميلون الى تتبع هذه الفكرة او ذلك المصطلح الذي اوصلته اليهم اخر الترجمات، كما لو كان موضة معرفية، دون دراية بتاريخ وجذور الفكرة او المصطلح، والجدال الطويل الذي سبقه، والضروري لمعرفة موضعه الصحيح على خارطة الفكر النظري. على هذا النحو وجدنا مصطلحات كالهرمينوطيقا، السيميوطيقا، التفكيكية، ما بعد الحداثة (ما بعد هذه ايضا)..الخ، موضع تداول غير قليل في ثقافتنا، لكن، للاسف، كثيرا ما يكون بغاية الاستعراض المعرفي، او الوهم بان الاطلاع على آخر ما يستجد في الفكر العالمي المعاصر يُغني عن تتبع اولياته (التي اصبحت “قديمة” مثل “موضة” لم تعد متداولة!) فضلا عن مشكلة كبيرة اخرى، وهي ان القارئ غالبا لا يعي ان ما عرفه ليس سوى النزر اليسير الذي وصل اليه عبر عنق زجاجة الترجمة الشحيح جدا الى
العربية.
واحدة من ابرز سمات القارئ او المثقف الشغوف بالفكر النظري، هي هذا الشغف نفسه، الذي يدفعه الى حب التفكير لذاته. فهو اساسا شخص يتسم بحب الاستقصاء، وتتبع الجذور، وفرز اشتباكات خيوط الفكر الكثيفة، وتحديد نقاط الافتراق والتقاطع، وان يتمكن من ثمّ عبر التأمل والتفكير من رسم خارطة او صورة عامة يضع فيها الجوانب المختلفة في مواضعها الاقرب الى الدقة والصواب. هذا على افتراض ان لديه القدرة او الملكة أصلا للفعل الفكري المتمعّن
والموهوب.
مجتمعات اللافكر
لكن علينا تلمس بعض العذر لمجاراة الموضات الفكرية، وللسطحية التي تتجسد في مظاهر كهذه. ذلك ان معطيات الواقع الثقافي نفسه في مجتمعاتنا تشجع على هذا. فمجتمعاتنا العربية أصلا ليست مجتمعات تشجع وتحث على التفكير والاستقصاء، وهذا مرتبط بطبيعة مسلماتها وانساقها الثقافية نفسها، او مؤسساتها التعليمية ذات الطابع التلقيني بوجه الاجمال، الذي يشجع على الحفظ والاستظهار عن ظهر قلب لا على تحفيز الاسئلة والحوار. كما ان كل من لا يستطيع الاطلاع على المصادر الغزيرة لمنابع الفكر العالمي المتوفرة بلغاتها العالمية او الاصلية، يظل لا مناص اسيرا للترجمة وما تقدمه. وما تقدمه في الواقع شحيح جدا (كما تؤكد ذلك المصادر العالمية، انظر على سبيل المثال تقرير التنمية البشرية عن مجتمع المعرفة في عالمنا العربي) وبذلك فان ما يصل إلينا عبر الترجمة كثيرا ما يكون مجزوءا وملتبسا لا يصمد امام النقد التمحيصي الا نادرا.
ولهذا تظل حالات العقول الشغوفة بالفكر حالات فردية متباعدة ومتقطعة، وكثيرا ما تكون واهية الصلة بالمؤسسات الاكاديمية التي يفترض ان تكون حاضنة رئيسية لها. فحتى الاقسام “التخصصية” الاكاديمية المعنية بالانسانيات والعلوم الاجتماعية (فضلا عن الطبيعية) قد تساعد البعض على توفير اساس لانطلاقته الفردية اللاحقة في سبر اغوار عالمه التخصصي، ولكنها بنفس القدر قد تحبط فيه الطموح والشغوف الحق، بسبب المناهج المملة والرتابة والنمطية ومستوى الاساتذة انفسهم (الذين كثيرا ما يكونون هم انفسهم نتاج هذه المناهج الرتيبة نفسها). فضلا عن ان الكثيرين ممن يدخلون اقساما كهذه، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والانثروبولوجيا، قد وصلوها كتحصيل حاصل ناجم عن درجة المعدل الذي نالوه او الظروف التي اتاحت لهم ذلك، لا عن رغبة داخلية قوية وقدرة وموهبة.
مثقفو الميديا
إنّ عصر السرعة والاعلام والصورة يترك تأثيرات عميقة على مجمل الثقافة العالمية، حتى في البلدان الاكثر تقدما ورسوخا في هذا المجال، وحتى في مجالات الفكر النظري. وفي اللقاء الصحفي الاخير مع جاك دريدا اشارة الى هذا الموضوع، إذ يبيّن ان هناك ظاهرة جديدة اقترنت بعصر الاعلام والصورة هي ظاهرة (الدوكسا) DOXA، أو مثقفو وسائل الاعلام او الميديا، وكيف باتوا يطغون بتنام على المشهد الفكري في فرنسا والعالم. ورأيه انه لا ينبغي الابتعاد عن وسائل الاعلام بسبب ذلك، بل العمل معها لتصويبها من
الداخل.
وامر كهذا يقودنا الى التساؤل التالي: اذا كان هذا هو مجرى الامور حتى في البلدان الاكثر تقدما في الفكر النظري والاكثر تجذرا وتاريخا فيه، فما بالك بالثقافات التي لا جذور قوية تاريخية لها في هذا الفكر، والتي تقاوم مجتمعاتها وسلطاتها اصلا حرية التفكير وتضع امامها العقبة تلو العقبة، والتي لا يصل الى مثقفيها من ضوء الثقافة العالمية الا الشيء النزير والهش؟ لا غرابة عندها ان يكون حضور “موضات الفكر” في تداولات المشهد الثقافي أكثر من الفكر
نفسه.