{السنوات اللقيطة» لفوزي كريم

ثقافة 2019/07/02
...

د. رسول محمّد رسول
بين الشعر والترجمة والنقد والكتابة عن الموسيقى تتوزّع اهتمامات الشاعر العراقي فوزي كريم، ولكن في خضّم كل ذلك يبقى الشعر الهاجس الأكثر مدعاة للاهتمام لديه والأكثر تعبيرا عما يشعر ويُحس به. منذ سنوات طويلة يعيش فوزي كريم في المنفى بل في منافٍ عدة ربما كان آخرها بريطانيا، وفي خلال كل ذلك وضع كريم أكثر من ديوان، وأكثر من كتاب نقدي، وعدد كبير من المقالات والدراسات النقدية، وفي خضمِّ كل ذلك أيضا بقي الشعر الهاجس الأكثر اقترابا من روح الشاعر، والأكثر تعبيرا عن همومه الوجودية في منافيه وهو ما نجدهُ جلياً في ديوانه الصادر مؤخرا في دمشق بعنوان (السنوات اللقيطة) الذي ضمَّ نحو خمسة وأربعين نصا شعريا يتحدث خلالها فوزي عن أنطولوجية ما يشعر ويحس في الماضي والحاضر عبر صورة شعرية مرهفة، ولغة شعرية نابضة، وإيحاء موسيقي أخّاذ.
الشعر والشاعر
لا تجد مسافة ما بين الشعر والشاعر في تجربة فوزي كريم، وقد يكون الأمر عاديا بالنسبة إلى أغلب الشعراء لكن لكل تجربة خصوصية، في هذا الديوان تتنوع قصائد الشاعر عن الشعر والقصيدة، وعن الشاعر أيضا، الشعر عند فوزي نبض الوجود، قد يكون الشعر مجرَّد أباطيل لكن الشاعر قضى العُمر مزداناً به، ولكي يؤصِّل ذلك يقول الشاعر:
في العقد الثاني من عمري خيّرني الشعر
بين الكلمات وبين جدار الطين
فاخترت الأولى، صار كتابي أكبر حجما من تنينْ!
هذا العشق للشعر بوصفه خيارا ومصيراً يتجلى أيضا بوصفه ملاذا، وهنا يتساءل فوزي: كيف يُضمد شعري الجُرح النازف؟ ونراه أيضا يتوسّل الشعر الخلاص من همٍّ وجودي فيقول: أيّها الشعر خذني إلى كهف آبائك، واسقني خمر الآفلين من رعاياك. أما الشاعر فيضفي عليه فوزي أدوارا عدة أحيانا تفوق أدوار الكائن المعتاد في الحياة، فهو ممروض، ورومانتيكي، وهنا نقرأ:
الشاعر في رأيي ممروض
لا يحسن فصل الذاكرة عن الذكرى
رومانتيكي ليس له، من بين فصول الدورة،
 إلّا فصلُ خريفٍ واحد
يحيا ليموت؛ لأن الموت الذروة في إنجاز الرغبة
الشاعر كالطلل تسكنه الريح ويصفر فيه الماضي
وإذا جنَّ الليلُ تلاشى وتحدَّث.
 
ليلُ المنافي
عاش الشاعر فوزي كريم عقودا من حياته في المنافي بعد أن ضاقت الدنيا به في وطنه العراق الذي كان يجثم على صدره دكتاتور مقيت؛ ولأنَّ المنافي لا ترحم، كانت كل ليلة تمر على الشاعر تعني له مأزقا، يقول فوزي: يحل المساء ككل مساء، يحلُّ على غير ما أرتضي، منذ عشرين عاما. وفي هذا يرسُم لنا صورة جميلة في إحدى ليالي منفاه:
أعيدُك يا ليل إلفا وملتجأً للشوارد
إذا كان بردٌ سأتركُ مدفأتي تتوقد حتى الصباح!
فمن محني تتزوُّد، يا ليل، فهي وقود.
......................
يا ليلُ رقِّقْ دموع العراقي
 حتى تليق الدموع لقداسك الأبديّ
وقد حضنته الشموع!
وفي قصيدة أخرى عنوانها (كيف لم ألتفت؟) يصرخ الشاعر منفاه ورغبته في وداع ما ليقول:
عشرون عاماً
ووقع خطى عابر الليل همهمة الريح
تحديقتي في الفراغ الذي خلَّف الأهل والنخل
ما إنْ مددتُ يدي كي أعانق
حتى رأيتُ يدي ارتفعت للوداع!.
 
وطن وطفولة وأهل
تحفل "السنوات اللقيطة" لفوزي كريم بصور الحنين إلى الوطن والطفولة والأهل، قصائد عدة تناولت هذه الموضوعات، خصوصا حضور الطفولة والوطن في ذاكرة الشاعر:
في النهر كنّا عراة، نلاحق موجته
وعراة على النخل كنّا، نلاقُح تمرته
وعراة مع الفجر، نزرع جذوته في الجبين
ونهتف ملء اليقين: موطني.. موطني..
لم يكن الأب ليغيب، يتذكّر فوزي الصباح الذي هرب فيه من بيته نحو منفاه المفترض في رأسه يومها، في تلك اللحظة قال له الأب: (حذار من أنْ يرى متطفّلٌ ما نحن فيه من الفِرار)، لكنّ الأب يعود من جديد في منافي الشاعر، وعودته هنا في قصيدة (وجه أبي) لها مذاق خاص، إنها فَرز وجودي لحالة مركبة يتفاقم فيها البُعد النفسي كثيرا، فالأب حاضر بل مشخّصة صورته بين جدارن المنافي التي يعيش فيها الشاعر الذي يقول:
أبي، إنني أختلي بك في الليل،
لا الليل يفنى ولا أنتَ!
إني بعيدٌ، على رغم ألفة البيت، ناءٍ.
 
المرأة
إن هذا المنحى الوجودي في تجربة الشاعر لم يُسقط المرأة من أنطولوجيته، فهي لم تغب للحظة عن همهمة الشاعر في منافيه، وكما الشاعر القديم عندما يشتق مقاربة ما للوصول إلى عالم المرأة التي بحسب فوزي كانت قد سألته عن الليل فقال:
 
الليلُ، كمعطفكِ المبلول، طويلٌ رطبٌ
تفلت فيه الأنجم كالأزرار
فُتحةُ صدرك مثل خليج
يضرب فوق حجارته البرد
وغدائر شعركِ محض صدى يتكاثفُ
حتى يسودْ
وملامح وجهكِ مرمى الريح
لا أسألُ من أنتِ؟
ولكن أسألُ من سأكون من دونكِ!؟
وبعد، إنّ تجربة الشاعر العراقي فوزي كريم قد لا يحدّها ديوان شعر مثلما لا تحدّها قصيدة واحدة، إنها تجربة ثراء وتنويع على هوامش غربة الشاعر ومنافيه وسنوات لقيطة عاشها بملء اليوم واللحظة حتى إنه لم يترك فراغا أو مساحة تفلتُ منه دون تكريس شعري أو نثري، إنه ديوان البساطة في اللغة، ديوان الصورة الشعرية المتوهجة إمعانا في صيرورة الوجود وهي تتبدى من منفى إلى آخر ولا هوادة فقد فلتت موجودية الشاعر من رتابة اليأس أو ما شابه..