لقد صدق دارس الإسلام السياسي فرانسوا بورجا حين قال إنَّ بعضاً من الاضطراب المفاهيمي في حوار الشمال والجنوب نابعٌ من تضارب المصطلحات. وخشيتنا من استمرار هذا التضارب نطرحُ من جديد مصطلحات متداخلة ومتفارقة على حدٍ سواء تقتضي التأني في استخدامها لكي لا تحدث التباسات في معناها ومبناها.. فالوطنية مثلاً كما سبق وبينا في مقالات سابقة متداخلة مع القومية في القاموس السياسي الغربي، ومع ذلك تمكن الغربيون في مرحلة صعود الدولة المدنية من فك ارتباط الوطنية بالقومية عندما امتزجت الوطنية بالثورية وحب الوطن إبان الثورة الفرنسية، وفك ارتباط القومية العصبوية العرقية التي انتجت النازية مع الفكر السياسي المدني الذي شيد صروح الدول المدنية في اوروبا .
وأياً كان التداخل والتفارق ما بين المصطلحين في فكرنا السياسي العربي فإنَّ هناك حقيقة هي ان الوطنية على غرار القومية تكتسب بالتربية حيث تقوم البرامج الثقافية والتعليمية في البلدان العربية بمهمة التنشئة الوطنية والقومية.. وهنا ترتبط وطنية الفرد بأرض الوطن وبجماعة من البشر نسميهم الأمة، وتجري عملية التنشئة القومية على اساس تجذير الهوية الثقافية العربية في الغالب الاعم مع بعض النزوع نحو الارتباط الاثني للفرد بالامة. ولعلَّ الالتباس الذي يكمن في معنى المصطلحين قد يتعارض مع مبناهما التاريخي. وربما يصدق من يقول بأن هذه النزعة التنظيرية قابلة للمراجعة والنقد.
ليس غريباً أنْ نجد في الساحة الفكرية العربية اليوم دعوات متصاعدة لفك الارتباط ما بين القطري والقومي والالتفات الى الضرورات الوطنية. والملاحظ في العقدين الاخيرين ان هناك تنامياً للتوجهات الداعمة للدولة الوطنية القطرية على حساب التوجهات القومية العروبية، وقد أدى ذلك الى انتعاش غير مسبوق للدعوات التي تقول بتحرير الجماعة الوطنية من أعباء الالتزامات القومية.
وعلى الرغم من ذلك نلاحظ استمرار وعينا السياسي العربي وبخاصة في كتاباتنا السياسية اليومية بارتكاب العديد من الالتباسات المصطلحية، واوضح صور ذلك عندما نستخدم المعنى في مبنى متداخل مثل الحديث عن حركة التحرر الوطني العربية، حيث نكون قد وضعنا هدفاً قومياً عربياً لمصطلح قطري هو الوطنية على الرغم من سعينا للفصل بينهما، وفي هذه الحالة يصبح المصطلحان الوطنية والقومية وكأنهما متطابقان أو متكاملان.
ومما لاريب فيه ان الفكر القومي العربي كما طرحته التيارات القومية والناصرية بدا مغايراً عن الفكر القومي الذي شاع في اوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. إذ لم يكن انتماءً العربي عرقياً لقوميته، وانما كان انتماءً لأمة لغتها واحدة وتحمل الموروثات الثقافية العربية وتحتضن في داخلها كل التنوعات الدينية والثقافية والسياسية، وفيها إطار قانوني مدني يصون حقوق هذه التنوعات ويسعى لتحقيق المساواة بين جميع أفرادها.
لقد كان جلياً أن اي اختلال في اقرار وتنفيذ هذه الحقوق القانونية يؤثر في عملية التمسك بالانتماء للوطن، وربما يحجب، إذا تعمق، أواصر الوطنية الجامعة. ولدينا من تاريخنا المعاصر مثالان على ذلك وهما: العرب والدولة العثمانية، والاكراد والدولة العراقية.
ففي المرحلة الاخيرة من حياة الامبراطورية العثمانية انتعشت النزعات الوطنية والقومية التركية الليبرالية (انبثاق تركيا الفتاة والاتحاد والترقي) وتحولت الوطنية العثمانية الليبرالية المتمثلة بـ “العثمانيين الجدد” تدريجياً الى وطنية قومية تركية طورانية، واصبحت بعد الانقلاب الدستوري عام 1908 تتبنى سياسة مركزية تركية أفقدت السلطان صلاحياته والدولة هيبتها والقوميات تماسكها عندما غالى القوميون الاتراك في سياساتهم وكتاباتهم، واعتبروا ان الدستور خاص بهم دون غيرهم وان صدوره منة يتصدقون بها على باقي عناصر الدولة العثمانية وان ارادوا حجبه فهذا
حقهم.
وبالمقابل استنكر العرب وباقي العناصر هذا التهميش القومي وبدؤوا بتنظيم انفسهم، فطرح العرب مطلبهم باتباع سياسة لا مركزية، وتأسس حزب اللامركزية ورفض طلبهم، ثم طلبوا وهم يمثلون حينها 60 بالمئة من سكان الدولة العثمانية صيغة فيدرالية بين العرب والترك لانقاذ الدولة العثمانية على غرار الفيدرالية النمساوية- المجرية وجاء الرفض القاطع.
وقد أدت سياسة رجال الاتحاد والترقي وسلطتهم الاضطهادية للقوميات غير التركية الى فقدان العرب وبقية القوميات حماس التمسك بأواصر الوطنية العثمانية الجامعة، وبخاصة بعد ان تعرض العرب الى عسف قومي تركي عنصري تكلل بحملة تتريك العرب قسراً، وهي السياسة التي أدت الى انتشار التوجهات القومية العربية وبررت نزعاتها الانفصالية عن الاتراك وانهاء التحالف العربي التركي وتمزيق الهوية العثمانية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف الى انهاء الدولة العثمانية واحتلال اراضيها.
كان علينا نحن العرب الاستفادة من تجربتنا في الدولة العثمانية ولكن من المؤسف ان الاخطاء القومية التركية قد تكررت في تجربتنا العربية مع القوميات الاخرى مثل الاكراد في العراق، إذ انتجت سياسات العسف الشوفيني (1968 - 1991) بسط الحماية الاجنبية وفرض الفيدرالية ذات التوجهات الاستقلالية. ربما علينا تسجيل استثناء لهذه القاعدة وقع في فترة حكم جمال عبد الناصر، عندما كان المفهوم الناصري للقومية العربية مفهوماً تنويرياً يقبل التعدد، ومثال ذلك انه فهم جيداً مطالب اكراد العراق وكان الحاكم العربي الوحيد الذي قبل بفتح أول إذاعة قومية كردية تبث باللغة الكردية من القاهرة وكلف حينها السيد جلال الطلباني
بإدارتها ..
إنَّ الاستيعاب المعرفي للمصطلحات السياسية يغني تجربتنا الفكريَّة وينشط عملية الفهم والتفاهم مع الآخر، ويشيد صروح الثقة في صفوفنا، ويعضد إرادة التغيير في سبل عملنا بعيداً عن الالتباسات التي حجبت الرؤية الصحيحة لمجمل التحديات السابقة والحاضرة بحكم استمرارها، آملين استشراف مستقبل أكثر انفتاحاً على التجارب الإنسانيَّة واختلاف الرؤى لاستجلائه تنويراً في نهاية
المطاف.