حسن الكعبي
إنّ الحروب وأنظمة انتاجها السلطوية والسياسية ومهما بلغت من قدرة على انتاج العنف إلّا أنّها تبقى مستقلة عن العنف بمفهومه العام، فالعنف يؤسّس منظومته الخاصة التي يتشكّل ضمنها بمعنى أنّ الحروب وانظمة انتاجها تتسبّب بافراز العنف لكنها لا تؤمن استمراريته، بل ان العنف ذاته هو الذي يضمن استمراريته، بدليل أنّ الحروب واسبابها تنتهي لكن العنف يبقى يمارس حضوره بشكل فعّال بعدها، وهذا جوهر النظرية التي ارتكزت عليها تصورات المفكرة الالمانية “حنه ارندت” في مقاربتها لمفهوم العنف واستقلاله عن مفهوم السلطة والسياسة، واذا كانت هذه الاشكالية تأخذ منحى تعقيديا ضمن المقتربات الفكرية والسياسية والفلسفية الا انها تظل اقل مما هي عليه في حال المقتربات الادبية وتحديدا السرد القصصي او الروائي، على الرغم من ان المقتربات الفلسفية او الفكرية تمتلك تاريخا إحاليا تؤسس عليه تصوراتها في مواجهتها لهذه الاشكالية في حين ان الادب لا يمتلك الا تاريخا تخيليا يتأسس عبر شخوص تخيلية ايضا، بمعنى ان على الادب ان ينحي التاريخ الفعلي المنتج لهذه الاشكالية ويتعامل معه بوصفه افتراضا وان يرصد الاشكاليات المتخارجة عنه عبر البنى الشعورية والتداعيات والارهاصات النفسية لشخوصه السردية، برغم ان فعل الكتابة سواء تعلق الامر بالادب او الفلسفة او اي نشاط كتابي اخر هو فعل او ممارسة تفكير ومن ثمة فلا فرق بين الانشطة الكتابية مهما تنوعت مجالاتها، فالكتابة كما يشير الناقد - موليم المروسي- (تعني وضع جسدك في موقع ما من العالم، وان تأخذ موقفا محددا من ما يجري حولك، وفي دواخلك) بمعنى تموضع الكاتب ضمن العالم بحضوره الواقعي او الافتراضي، والتموضع هنا لا يحيل الى تقنية الميتافكشن التي تستعمل كستراتيجية فنية تسمح بحضور الباث ضمن البنيات السردية التي يبتدعها، وانما التموضع المقصود كرؤية تشتغل ضمن عالم افتراضي يؤثثه خيال السارد.
وفي هذا السياق أي تموضع ذات الكاتب مع العالم والتفاوض المضمر بين الفلسفة او الفكر او السياسة والادب يقارب القاص نبيل جميل في مجموعته القصصية (فتى الحروب/منشورات الرافدين – لبنان 2016) اشكالية العنف في واقع ما بعد الحرب.
زمن العنف
يستظهر القاص نبيل جميل في قصة – ظل بارد - تجليات العنف بالتزامن مع الحرب باستخدام التقانة السينمائية واستخدام رموزها في الكشف عن بشاعة الحرب عبر التداعيات النفسية وارهاصاتها لشخوص القصة، إذ تكشف هذه التداعيات عن الطابع السادي والمازوشي ضمن شخصيتي الطاهي ابو نمر والجندي المعتمد نوري، ويتشكّل العنف في سياق التجاذب بين طرفي هذين المفهومين، فالطباخ وهو يمثل الطرف السادي في هذه المعادلة عن طريق حرصه على ديمومة واسمترارية الممارسة الشاذة بينه وبين الجندي كما تحيل رمزية الطبخ الى الصناعة اي صناعة الشذوذ في مطابخ الثكنات العسكرية.
إنّ حرص الطاهي ابو نمر على ديمومة الشذوذ الذي تمت صناعته تتكشف عن رمزية التدخين ضمن اشارة القاص (من وراء زجاج النافذة، تابعتهُ نظرات (الطاهي) يغذ الخطى باتجاه الحانوت، مخترقاً ساحة التدريب ثم رحبة العجلات حيث توقف ليشعل سيجارة.. فابتسم قائلاً : لن يتخلى عن عاداته).
الطرف الثاني في المعادلة النفسية تستظهره شخصية نوري عبر رمزية المرأة التي تظهر بشاعته الشعورية واستعادته الذاكرية لكيفية تشكّل مفهوم الشذوذ الذي انتجته الحرب (وأمام المرآة وهو يمشط شعره القصير، شاهد وجهاً تائه النظرات، وجهاً أشبه بوجه جندي مهزوم من معركة ما، طغى عليه شعور بالغثيان والانحطاط، ترسّبت في داخله أفكار سوداء، ثقيلة بقلقها المتشظي والمتصاعد بهواجسه المظلمة، فكّر ان يبصق على سطح المرآة، وأن يمحو صورة المسخ الذي أمامه).
إنّ هذا المستوى من تجليات العنف عبر استخدام المفاهيم النفسية وتطويع التقنيات السينمائية ورمزيتها كخوادم في الكشف عن الطابع العنفي لواقع ما بعد الحرب، هو المستوى المحايث اي المستوى الذي يتبلور ضمن او بالتزامن مع الحرب .
المستوى المحايث الاخر يظهر ضمن قصة - منجذبا نحو حلم- وتأخذ هذه القصة منحى غرائبيا في الكشف عن العنف البيولوجي ضمن رمزية الهيمنة الابويّة وتوريثها للتشوّهات الخلقية للابناء فالشخصية تولد بفتحة قلب تؤرقها، لكن القص لا يتعمق ضمن هذه الثيمة بل يذهب باتجاه المستقبل ومصائر الابناء ويتوقف ضمن محطات استعادية تستظهر العنف الناتج عن التفكير بالموت ليكشف وفي سياق غرائبي موت الشخصية قبل ذلك بتسعة اعوام. إنّ المحطات السردية في هذه القصة تكشف باريحية الطابع العنيف للحرب ومابعدها بانتقالات رشيقة رغم المشقة الناتجة عن الافراط في استخدام الخيال في استظهار تمثيلات العنف.
ضمن المستوى المحايث ذاته تأتي قصة فتى الحرب التي ترقى الى عنونة المجموعة وتشكل الاطار الشمولي الحاضن لها، إذ تبث بخيوطها السردية الى مفاصل قصص المجموعة لتشكل اتحاد سردي يستظهر ثيمة العنف وتجلياته في مفاصل الحياة ومؤسساتها الانتاجية.