(من: سيرة كتابة)

ثقافة 2019/07/05
...

رعـد فاض
إذا كنّا لا نزال نتكلّم على شعر مختلف واستثنائيّ، فإنّما نتكلّم على متن الحياة نفسها عندما تتحوّل إلى سيرة من الكتابة يكون هذا النوع من الشّعر محورَها، وعن كون هذا المتن كيف كان مهمَّشاً حتّى نهايات ثمانينيّات القرن العراقيّ الماضي، لا يُتداول في الغالب إلّا بعيداً عن المؤسسات الثقافيّة التي ضربت حوله وقتها سياجاً من التّشكيك والتعتيم والعزلة. ولكن ألم يضرب مثل هذا السّياج مثالاً لا حصراً حول النّوع الصّوفيّ غير السّياقيّ لأنّه كان يصدر عن ذهنيّات جماليّة ومعرفيّة ذوقيّة بعيدة عن الوعظ والتّسييس، نوع لا يزال لا محلّ حقيقيّاً له في واقعنا الثقافيّ والأكاديميّ أسلوباً وفلسفة ورؤيات إلّا في حدود ضيّقة؟. ألم يُتّهم كلّ راء مختلف بالهرطقة أو النّخبويّة أو الفوقيّة قياساً بذاك- هذا الواقع التقليديّ للعقل الفلسفيّ والأدبيّ والنقديّ والأكاديميّ والثقافيّ العربيّ؟. الواقع بخاصّةٍ عندنا نحن العراقيينَ لم يعد التّخوين والتّأثيم مقتصرين على هذا النّوع الشعريّ أو ذاك وإنّما على تجريف الثقافة نفسها، وما يعنينا هنا ذلك النوع الشعريّ الاستثنائيّ الذي كانت تناصبه السّواكن والثّوابت العداء في محاولات منها لدفعه إلى أن يكون نوعاً من حضور شعر الماضي وثقافته، لكنّها مع هذا كانت شكلاً من أشكال التّحريض على التّحدي والتّواصل والإصرار على حريّة أرحب في القراءة والتّفكير والكتابة، نكاد نعدمها اليوم بسببٍ من طغيان السّطحيّة والرطانة والميوعة الشعريّة السّائدة لسهولة النّشر التي لم يسبقها مثيل. 
أتكلّم هنا على نوعيّة الوعي الشّعريّ من جهة كونه رؤية جماليّة – معرفيّة. وعلى وفق هذا  يمكنني تصنيف شعراء الحداثة عندنا إلى ثلاثة أصناف: صنف أخِذوا ببهرجة الحداثة من جهة كونها نوعاً من التمرّد على القديم، والسّائد المألوف في مجتمعات رافضة وقامعةٍ لكلّ ما من شأنه أن يكون ولو لَمْعاً على طريق التّغيير والتجديد دون معرفة هذا الصّنف حتى بأرضيات الحداثة التاريخية وخلفيّاتها الفنيّة والفلسفيّة، فصاروا يتنطّعون بها  ليس بوصفها محرّكاً حضارياً وثقافيّاً وسلوكياً، ولكن من جهة تبنّيها الخروج على المألوف للتفلّت من الصّرامة الشعريّة التقليديّة حسبُ، ممّا حوّل الحداثة على أيديهم إلى موضة قابلة للدّحض النقديّ البسيط بسهولة. 
وصنف آخر لا يزال يرى الحداثة على أنّها خروج على الوزن والقافية، وفي ذلك سوء فهم كبير لا يصدر إلّا عن فهم سطحيّ سقيم لها لم يفصح إلّا عن نصوص انشائيّة مشوّهة، ورؤية ضيّقة. أمّا الصنف الثالث فهم ((القلّة الهائلة)) الذين فهموا الحداثة الشعريّة العربيّة بحركاتها الثلاث، والحداثة الشعريّة العالميّة وتشرّبوها ولعبوا على وفق هذه الزّمانيّات الثلاث؛ هذا الصّنف غالباً ما يذكّرني بـ ((الحفّار بماء الذّهب)) تلك الرسومات المائيّة لـمانيْه الصّادمة للذّائقة الثقافيّة الفرنسيّة التي دُهش بها بودلير شكلاً وفلسفة وجمالاً. نتطلّب اليوم أكثر من أيّما وقت مضى شعراً يُعنى بملء الفراغات المعرفيّة والجماليّة والإنسانيّة التي صنعها الوجود الثقافيّ التقليديّ من حوله، شعراً مشبَّعاً بالفِكْر والسِّحر، أي نتطلّب شعراء جماليينَ معرفيين زمانيينَ متمسّكين حتى النهاية بلحظة الحاضر الشّعريّة بوصفها دائماً نقطة انطلاق وتواصلٍ لا مركزَ ثبات.
 بودلير نفسه وبتنبيه غير مباشر من الوازيوس الذي سبقه إلى تحطيم صنميّة الشّعر الفرنسيّ بكتابه الشعريّ الشّهير (غاسبار الليل) نبّهه إلى اعادة انتاج اليوميّ العابر في ما هو مقبل وأبديّ ومجهول، لذا لا يزال تواصلنا نحن المستقبلَ بالنسبة إلى ألوازيوس وبودلير، وقبلهما بالنسبة إلى أبي تمّام والمعرّي والنّفريّ والتوحيديّ وسائر المبتكِرينَ... قائماً. 
والآن هل هذا النّوع من الفهم الشعريّ قابل للنفـاد، وبالنسبة إلى مَن؟.  النّـفـاد ليس بوصفه نهاية العالم، وإنّما من جهة توقّف الإنسان عن تعاطي الشّعر، وبمعنى آخر توقّف حركة التّاريخ شعريّاً (وسأتعرّض لعلاقة التاريخ بالحداثة، وبما بعد الحداثة في مقال قابل). الشّعر في واحد من مراميه محاولاتٌ لِإلانَـة تاريخ قسوات العالم إزاء الإنسان الفعّال وثقافة حاضره ومستقبلها، وقد لا يكون هذا الاستثنائيّ الشعريّ في النهاية صادراً إلّا عن رؤية متشائمة ممزّقة ومسحورة بذلك كلّه حتّى الرمق الشعريّ الأخير لكلّ شاعر استثنائيّ لأنّ الحداثة عندنا حتى الآنَ لا تزال استثنائيّة! كونها ثورة جذريّة وشاملةً تقوم بخلق صياغات جديدة لمفاصل الحياة تربيةً ومناهج دراسيّة وفلسفة وأدباً وفنّاً وفكراً وسياسة واقتصاداً...، أي أسلوب تفكيرٍ آخر وطريقة نظرٍ جديدة إلى العالم والأشياء أخرى لا تناسب العقل الآيديولوجيّ والسياسيّ والدّينيّ العربيّ. 
من دون ذلك سيظلّ الخلْط المشوّه لمفهومي الحداثة/ والتّحديث فعّالاً، ففي الوقت الذي تكون فيه (الحداثة) تغييراً نسيجيّاً عميقاً لا يمكن أن يكون (التّحديث) إلّا ذلك التّوفر على نوع من الوسائل والتّقانات الحديثة، وهو ليس سوى انقلاب على الأشكال والصّور والوسائل دون الرؤية والمحتويات والفِكر، وهو بهذا المعنى كَمَن يأخذ أحدث المستلزمات التكنولوجيّة وأعقدَها إلى مجتمع متخلّف بعامّةٍ كمجتمعنا ثقافيّاً ومعرفيّاً ويلقيها دفعة واحدةً أمام جهله الكامل بها، وبالنّتيجة لن يكون التحديث سوى انبهار فارغ متوهَّمٍ به على أنّه الحداثة نفسُها إزاء هذه المستلزمات، أي إننا مازلنا لا نتوفّر على الإيمان النّوعيّ في أن تصيب الحداثة العقل نسيجاً وفكراً وبناء وسلوكاً وأسلوب حياة في البيت والمدرسة والشّارع والدّائرة والمقهى والأوساط الأدبيّة والأكاديمية. كان الصّراع بين بودلير بوصفه فلسفة وأسلوباً شعريّاً شاذّين وبين العقليّة الثّقافيّة والأكاديميّة الفرنسيّة وقتذاكَ بحثاً عن الاعتراف بهذين الشّذوذين، وهذا ما حصل فيما بعدُ، أمّا عندنا فصحيح هو صراع مع العقل القديم ومقلّدهِ غير أنّه عقل لا يزال يزداد تزمّتاً وانتشاراً وتسلّطاً كلّما تقدّم الوقت، فكأنّنا نعيش في محيط لا يكبر لينضج وإنّما ليتكرّش في ثباته وينتفخ باستمرار. ومن نافلة القول إنّ بودلير كما أبي تمّام والمعرّي والتوحيديّ والسّياب وأدونيس وانسي الحاج...، كان يعي تماماً أنّ انتصاره  إنّما يعني انتصار المستقبل على الماضي و (الحاضر المُقـلِّـدِ) لهذا الماضي، وهذا ما حصل فيما بعد أيضاً على الرّغم من اصرار عقابيل تلك العقليّات على مواجهة هذا السّيل حتى سبعينيّات القرن الماضي فرنسيّاً إذا لم ننس ذاك الهجوم الشّهير الذي شنّته الأكاديميّة الفرنسيّة على رولان بارت الذي كان يوصف ببودلير القرن العشرين، في الوقت الذي لا تزال فيه الحداثة العربيّة في موقع الشّارح لهذا الشّذوذ الخلّاق والذّائد عنه بعامّةٍ حتّى الآن!. حقّاً ((الفشل شكل من أشكال الموت)) كما عبّر الإمامُ عليّ؟.                                                                       
الادعاء الذي ما زال يشيع ويترسّخ أكثر أنّ هذا الصّراع بين أصيلين نقيين وآخرين هجينينَ (قصيدة العمود/ وقصيدة النّثر مثالاً)  كأنّ الأصالة هنا ايمان راسخ بالثّبات وتقديسه، وليس إيماناً متواصلاً من الحياة، كأنّ النّقاء هو الإخلاص المتواصل للأنموذج الأوّل حسب لا لتواصله في التغيّر والتّشكّل والتّطوّر باستمرار. 
ووفقاً لهذا الفهم الثقافيّ السّائد: ما الحداثة إلّا تخريب لأنّها خارجة على مِلّة الأصل (تأثير النّظرة الدّينيّة التقديسيّة للأصول والثّوابت في الحياة والثقافة). 
المشكلة الطّريفة أنّ طرف الصراع الأوّل كما شعراء صنف الحداثة الأوّل قد انقلبوا بين ليلة وضحاها إلى (حداثويينَ) بواسطة الكومبيوتر والإنترنت والسّتلايت وسائر وسائل الاتصال والحداثة، حتّى أنّ أحدهم سألني أكثر مرّة مستغرباً (عام 2008 م) بما معناهُ: كيف يمكن أن تكون حداثيّاً وما زلت لا تجلس إلى الإنترنت؟! على الرّغم من أنّه حتّى اللحظة لا يزال من نواطير تلك الثّوابت ودعاتِها ثقافةً وأسلوبَ كتابةٍ وفهماً، هنا بالضّبط يتجلّى الماضي بصورة الحاضر دون مضمونه تماماً. 
صحيح أنّ بودلير ركّز على المتعة واللذّة وعلى العابر من الحياة، وهذا أكبر خطأ فكريّ شعريّ ارتكبه، وذلك ما أثبته فيما بعد:  بيرس، فاليري، ميشو، وقبلَهم رامبو عندما أكّدوا على فكرة الحاضر بوصفها مزيجاً مِن الآنَ/ وفيما بعدُ، أي بوصفها حاضراً ومستقبلاً في آن، وعلى فكرة المستقبل بوصفها مجهولاً تتطلّب اكتشافاً متواصلاً. وصحيح أيضاً أنّ بودلير وضع شرطاً شعريّاً لذلك ((المُحاكاة دوماً)) لكنّها في ظنّه كانت محاكاة الغاطس في عمائق الأشياء والإنسان عِبر اليوميّ المعيش وليس محاكاة اليوميّ العابر السّطحيّ الزّائل، وإذا ما قارنّاه بأدغار آلن بو لرأينا أنّه إنّما كان يدير دفّة الحداثة بمعناها الواسع بوصفها ثورة وليس انقلاباً، في الوقت الذي كان فيه بو ((كائناً أصيلاً يدفع الصّفاء ويدير دفّة الصّرامة ضدّ ذاتها، إلى حدّ مهاجمة صنم الأصالة نفسه)) كما فهمنا من فاليري، لكنّه مع هذا لم ير أنّ للجديد قيمةً في ذاته بوصفه ابتداعاً كما فعل بودلير.