نصير الشيخ
هل يحقّ لنا اكتشاف طروحات تحمل جدّتها، بل وتحمّل صدمتها الثقافية في متن كتاب أحسبه لم يأخذ حقّه الإعلامي حتى الساعة رغم صدوره منذ سنوات.
بل أية دهشة تعترينا ونحن نمسك بإهاب نظري لما سمّاه مؤلفه (المسودة المسرحية)، هكذا يضعنا المسرحي (عباس داخل حبيب) في كتابه (المائعة في طبق) الصادر عن دار أزمنة في طبعته الأولى عام 2010، أمام مهاد نظري يقترح تشكيلاته اللغوية هو، وينحت مصطلحه المسرحي الذي يقطع حبل السرة مع (المدوّن الآخر/ الإرث المسرحي)، ليجترح عبر فعل الكتابة بمستواها البالغ التجريد خلاصات مفاهيمية تأخذ من حقل (مابعد الحداثة) تصورها وفِعلها عبر تدوينات نصيّة تحت عنوان (المدوّنة المسرحية) واضعاً قدمه في المتن البلاغي لمفردة «المسودة» وحضورها واشتقاقها اللغوي، ومعناها الاصطلاحي، ومن ثمّ يقدّم لنا الدور المثالي الإبلاغي لـ « المسودة» في تحولها من مفردة لغوية الى فعل حياتي/ جمالي ميدانه المسرح.
أي ((بانتقال مفردة المسودة من الاستعمال اللغوي القائم على وحدة تضاد العلاقة النصفية /المستعملة الملفوظة لخارج النص/ الى الاشتغال المسرحي إذ تتساوق ملامحها الأولية القائمة على أساس اشتغال وحدة تضاد العلاقات المسرحية المرتبطة أيضاً بعلاقة اشتمال)) ص15.
تبويب الكلام تحت مسمّيات تدريجية على وفق رؤى الكاتب (عباس داخل حبيب) مكيّفاً تنظيراته المنطلقة من النص المسرحي /كتابة ــ نص التأليف/ المولود على الورق، وصولاً الى (المنصة/ فن الخشبة) إذ يُسلّم “الحوار” منطوقه البلاغي واللغوي الى “الفعل الدرامي”، حتى وصول وتبلور المسرحية من ((الأدب لصالح الفن.. وبهذا تكتمل مناشط النص الذاتية بغاياته الفعلية وهي تتوسّل تمارينَ تضفي حرية تعتقُ النص من ربقة سخف ما صار شائعاً من انه عاجز بذاته عن التفاعل العملي ومكوّنات بيئته المسرحية)) ص19.
الكتابة في أفقها التنظيري لدى عباس داخل، تأخذ مديات واسعة في أفقها الرؤيوي منطلقاً هو من “عندياته” كطالب وقور لفن المسرح، يقف على مدرج روماني يمدُّ نظره بعيدا على وفق “رؤاه” وحواليه “مصفوفات” مسرحية، نصوصاً، ودراما، وشخوصاً، وعروضاً مخزونة بالذاكرة، مستعيداً تسميتها وطرائق استخدامها في الحقل الإخراجي تحديداً، تقف في مقدمتها (تعريفات) و (تعابير مسرحية) مثل (التغريب، التطهير، الاندماج، الطقسية، الصورة).. يرافقها إنتاج نصوص مسرحية لصالح طرائق الاخراج التي تزحزح المفاهيم القديمة واستبدالها بمعايير فردية جزئية، مسمّياً التجارب المؤثرة في تاريخ المسرح العالمي وأبعادها التنظيرية والتجريبية القارة، وبما أسست من قاعدة بيانات ورؤى إخراجية ظلّت درساً مهما في أفق الفن المسرحي المعاصر، مثل (بسكاتور، كروتوفسكي، أرابال، ستانسلا فسكي، برخت، عبد الكريم برشيد، صلاح القصب، وصولاً للتجربة الشابة المائزة لناجي عبد الأمير، والتي أعدّها الكاتب «مروقات لكسر تابو الجمود وصولاً لعصر أنموذجي للتوازنات”.
ولأنّ المسرح هو «دراما» تشكّل عقدة تاريخية تتمحور حولها صراعات تختار أقدارها، وتدخل دائرة اشتباك الفعل الدرامي، بل إنّ المسرح وهكذا يحدد لنا الكاتب عباس داخل: ((بسنواته الأخيرة واجه تطلعات تقدمية متعثرة في بلدانه المتقدمة حين حاول تدجين التقنيات بمركبات بحث علمية تكنولوجية لها أثر فعال لايمكن تجاهله على ثقافتنا وأنماطها المسرحية)) ص25.
ولأنّ المسرح هو حياة، بل هو حياة ضد الوضوح الساذج، لا بدَّ له من ابتكار طرائق تعيد له ترتيب القيم الدرامية وهذه المرة عبر قراءتنا الجديدة والمغايرة والمستفادة منها، عكس التيار في فهم المسرح، أي من المسرح الى الحياة.. من أعمال المنصة الى اعمال النص، من النتائج الى المقدمات، من المقروء الى المكتوب، أي قراءة مغايرة تستجلب الأثر الفني والجمالي لتأثيرات العرض المسرحي وحضوره في ذات المتلقي واستعادة مفهوم (التطهر/ الكارتزر) بصيغته المحدثة لإعادة توازن الحياة التي نبغي والتي تقودنا خطاها الخفية الى مهالك وشيكة في الكثير من مرافقها وامكنتها متأججة الصراع على سطح هذي البسيطة. أي تلمس التأثيرات “الأخلاقية” للعرض المسرحي وقياس مديات تأثيره في التجربة الحياتية التي من خلالها “يمنح النص المسرحي المكتوب حرية واسعة”.
ولكي يتم لنا الإمساك بمفهوم الكاتب عبر اشتغاله طيلة الصفحات المقدمة لنصّه المسرحي /التنظيري/ المائعة في طبق، تترشّح لنا خلاصة مفادها، من أنّ “العرض المسرحي” الذي هو «النص» المنتهي، يمكن الوصول لظاهرته الطبيعية عبر مراحل يمكن الإتيان بها، وبما يتشكّل فيما بعد “ظاهرة تطبيقية ووحدة للتنويع” ألا وهي “المسودة المسرحية” التي تعتمد تدوين الملاحظات المستنتجة من القراءات التفسيرية لمخاضات الدروس الأولى لجلسات الإخراج، وأيضاً بمجاله اللغوي الآخر الذي يسمّى “سكربت الإخراج” وهو وجه العملة النظري لما يجري على خشبة المسرح الغنية بالارتجالات. ص27.