الهيمنة السرديَّة في الرواية النسويَّة

ثقافة 2019/07/06
...

د. نادية هناوي
تقول فرجينيا وولف في كتابها (غرفة تخصُّ المرءَ وحدَهُ): «إنّ المرأة حين تكتب تفكّر عبر أمهاتها.. ليتحوّل شعورها الى أنّها سليلة طبيعية لهذه الحضارة». ولعلّ هذا هو ما يمنح المرأة الكاتبة الشجاعة لأن تفضح العادات وتعرّي التقاليد التي تجور على النساء كبتا ومصادرة. وعلى مستوى الكتابة الروائية تبدو الشخصية ساردة أو بطلة أو كليهما معا، كذات مؤنثة، تتكلّم بضمير الأنا متجاوزة حالة الخوف معبّرة مباشرة عن نفسها، من دون حاجة إلى سارد خارجي يتولّى عنها البوح والاعلان، توكيدا لحقيقة أنّ الانثى هي المالكة للسرد، وهي الممارسة لفعالياته؛ مغادرة بذلك صورتها التي رسمتها لها أنساق المنظومة الأبوية في المرحلة الحداثية التي فيها الأنثى شخصية ثانوية لا تظهر سوى كهامش وككيان بلا صوت.
ولقد كثرت الروايات النسوية التي احتلَّ صوت الانثى فيها المركز، فارضا الشخصية المؤنثة بطلة وفاعلة، وهو ما نجده في رواية (سيدات زحل) للطفية الدليمي التي فيها يحضر هذا الصوت حضورا فاعلا مركزيا، أعطى للأنثى الأولوية في المبادرة والتصعيد. فكشفت لنا الساردة حياة البابلي عن شخصيات فاعلة كما أعطت لهنَّ فرصة البوح ليكن ساردات بضمير الأنا والنحن. أما الشخصيات الذكورية فمؤسْلبة في عالم ضاعت فيه الرجولة أما بالموت أو الاخصاء أو الاستسلام والهجرة أو القتل والسفاح. وما مقصدية إصرار البطلة على المجابهة بدل الاستسلام ورفض الهجرة والاغتراب بالبحث والبقاء إلّا توكيد لمركزية الأنثوية مقابل ضياع الذكورية وهامشيتها . ولا مناص من القول إن ترك خاتمة الرواية مفتوحة تصحيح للعلاقة بين المركز والهامش في أنّها تصالحية ليس فيها نبذ أو ثأر، كما ليس فيها مصادرة ولا إلغاء، لتكون المعادلة في صورتها النهائية ليست المراهنة على الأنثوية وحدها وإنّما المراهنة على الذكورية أيضا بطريقة تشاركية فيها البطلة هي الأمل الذي سيسترد الرجولة من 
الضياع. 
وتتمثل مركزية الصوت الأنثوي في رواية (أنثى العنكبوت) للسعودية «قماشة العليان» في البطلة أحلام الشابة المتعلّمة التي تعاني من ضغط الواقع المعيش والتقاليد الصارمة، فتأخذ بسرد قصتها في ما يشبه السيرة الذاتية بضمير المتكلّم مسترجعة رحلة بحثها عن الحرية، محاولة التملّص من التقييد والتضادية التي كبلت حياتها. وبالكتابة تعبّر عن صوتها، رافضة الاستلاب الذكوري، مفنّدة القاعدة التي تقول إنّ (المرأة لا تحسن الكلام عن ذاتها) علما أن هذا التفنيد كانت قد نادت به الناقدة جياتري سبيفاك في دراستها المهمة (هل يمكن للتابع أن يتكلّم) مبتغية توكيد أن النضال الذي تقوم به الطبقات المستضعفة لا بدَّ أن يقوم على شعور داخلي بالقوة وتثمين دورها في التغيير. 
وفي رواية (زجاج الوقت) لهدية حسين تتوزع المركزية السردية بين البطلتين العمة هداية وابنة أخيها حنان اللتين تعانيان من الكبت العاطفي ولم تكملا مشروعهما بالزواج، وهذا ما يجعل الأنثى مناصرة للأنثى، تستبطن وعيها وتحاوره فتستبق وتسترجع بحرية كبيرة، وفي هذا نزوع واضح للتمركز النسوي، فتبدو الشخصيات المؤنثة متآزرة. وهي وإن كانت تمر بحالة انفصام عن الواقع، لكنّها تتحكّم بالزمن وسيرورته، كما تتحكّم بالشخصيات الذكورية. والرواية متعددة الأصوات فيها الشخصيات النسوية غالبة كما ونوعا على الشخصيات الرجالية التي لا تؤدي سوى بعض  الأدوار الهامشية. ويصبح التوحّد السردي بين البطلتين بمثابة اقتران أنثوي، إذ كل واحدة منهما تجد الأخرى قرينتها ومصدر ثقتها. وتغدو ممارستهما الكتابة بمثابة حل ناجع وسبيل بديل عن الآخر، وبذلك تتغلبان على أزمة الوحدة التي تعيشانها. 
هذه التوحدية أو الواحدية في التسريد الانثوي، هي تمثيل ثقافي لفكرة أن المرأة هي التي تناصر المرأة وهي التي ينبغي أن تتكلم عنها. وما على الرجل إلّا أن ينصت لا انتقاما من الذكورية، ولكن مقاومة ومجابهة ونفضا لحالة الاخضاع والتواترية التي تتطلب من المرأة أن تنفّذ ما يطلبه الرجل منها من دون صدود ولا معاندة.
 ونجد في رواية (أنا هي أنتِ) للبنانية الهام منصور أن الاقتصار على الشخصيات النسوية؛ هو إعلاء للصوت الأنثوي كي يكون مركزيا. ومن العنوان الرئيس لهذه الرواية تتضح قصدية التمركز الانثوي بالضمائر الثلاثة الدالة على صوت الأنثى. ويزيد رسم حركة الكسرة تحت تاء (أنت) النزوع الانثوي تمركزا، ليس بمعناه الفيزيولوجي وإنما بتناصيته مع الأنموذج الشهرزادي المنتقم من الآخر بالسرد، مستعيدة بذلك مركزيتها على المستوى الكتابي، من خلال إزاحة الرجل الذي طالما شحذ هممه من أجل أن يستولي عليها ويجعلها خادمة طوع أمره، وقد وسمها بالنقص والعار والدونية، حائلا دون أن تصنع لها عالمها الخاص.
إنّ تمركز سهام في الرواية كبطلة، متأت من أنوثتها، حتى وإن كانت محصلة هذا التمركز الخذلان والانكسار، وقد يغدو في تسريد المثلية الجنسية دونية ترضي السرد الذكوري، لكنها أيضا تمركز الصوت الأنثوي، وتقويه وتجعل له سلطة في الكتابة السردية باستراتيجية ترى الآخر زائفا وعدوانيا غير مناصِر ولا حقيقي.. كنوع من الاستبداد النسوي الذي يعارض المجتمع الفحولي وما فيه من الشبق الفاحش والجنوسة المحرّمة، متوغلا في السرد بأنثوية، وهذا ما جعل الساردة سهام جريئة في البحث عن أنثوية مسروداتها، محاولة رفع الستار الذي أخفى دورهن وهمّشه بالإكراه والإملاء.
 ولأنّ الساردة في رواية (ساعة بغداد) تتمكّن من جعل صديقاتها يشتركن في ذكرياتها، تغدو الرواية نسوية مشتغلة على ثنائية المركز/الهامش، إذ الغلبة سرديا للإناث (الساردة ونادية وبيداء وشروق ونادرة مروة). وصحيح أن الشخصيات الذكورية موجودة لكنها هامشية أو ثانوية أو غائبة بسبب الواقع الذي يغص بالحرب والحصار والهجرة والاحتلال (العم شوكت واحمد وفاروق) وقد جعلت الساردة صديقاتها وجاراتها الخائفات القلقات المتشظيات هن الفاعلات في تصعيد التحبيك وتعقيده. وما استعمال ضمير المتكلمين (نا) سوى إشعار خفي بالغلبة النسوية» وعندما نرى أوراق الأشجار اليابسة في حديقتهم نشعر بالألم تتمنى كل واحدة منا أن تتحول إلى غيمة كبيرة وتنزل مطرا نظيفا يغسل هذه الأوراق من الغبار» ص47 . 
إنَّ هذا التمثيل للانثوية بمركزية الصوت السردي النسوي نستشرفه هنا كأفق مستقبلي تسعى إليه السردية العربية كسمة ما بعد تنويرية تتميز بها الرواية النسوية.