كلام الصمت
ثقافة
2019/07/06
+A
-A
عبدالزهرة زكي
(يقف شخصان، ويتجاذبان الحديث في الشارع عند الصباح. ينظران حولهما برويّة، كما لو أنّهما لا يزالان مراقبَين من قبل صمت الليل.
تمرّ الكلمات بينهما جيئةً وذهاباً بخلسةٍ كما لو أنهما يبحثان في ما إذا لا يزال بإمكانهما التكلّمُ بعد صمت الليل).
ماكس بيكارد (عالم الصمت)/ ترجمة : قحطان جاسم
سافرت مرةً مع واحد من أقرب الأصدقاء لي. كلانا ننهض مبكّرين من النوم، نلتقي كلّ صباح في صالة مطعم صغير في الفندق. في الغالب نكون وحدنا هناك قبل أن يستيقظ نزلاء الفندق الآخرون، وفي الغالب نتناول إفطاراً خفيفاً قبل أن ننطلق في ساعة من التمشي في شوارع حوالي الفندق ثم نؤوب إلى الفندق للتهيؤ لنهار جديد في مدينة كانت هي أيضاً جديدة بالنسبة لنا. وكان الجديد في هذه المشاوير الصباحيّة هو اكتشافي أن صديقي العزيز لا يفضّل الكلام طيلة وقت مطلع الصباح بخلاف ما هو عليه في أوقات أخرى، فهو واحد من أفضل المتحدثين والمسترسلين في حديث لا يُملَّ عادةً.
كان يلتزم الصمت أثناء ساعات الصباحات الأولى حتى يبدأ بالانسياق في عالم الكلام تدريجيا كلّما تقدّمت الساعات نحو النهار.
***
استذكرت حالة الصديق قبل أيام فعدتُ لقراءة ثانية لترجمة الشاعر والكاتب قحطان جاسم لكتاب (عالم الصمت) لمؤلفه ماكس بيكارد، الكاتب السويسري الذي يعدّ واحداً من المفكرين القلائل الذين يكتبون بحساسية افلاطونية عميقة في القرن العشرين. في كل حال كنت ساقرأ الكتاب ثانية، إنه من الكتب التي تستحق هذه العودة إليه. ولعلّ مثل الانحياز الذي أبديه إزاء الكتاب هو نتاج لهذا الامتزاج المدهش فيه ما بين الشعر والفلسفة والذي تعبّر عنه رؤية المفكر وأسلوبه في التعبير عن هذه الرؤية.
في أثناء هذه العودة للكتاب استللت منه هذا التعبير الذي صدّرت به المقال، كانت كثافته البليغة تكفي لأقف عند تعبيرٍ خلق بموجبه الكاتب السويسري معادلاً لصمت الصديق. إنها كثافة تريد مضاهاة كثافة الصمت في وصفها لمشهد صديقين ظلا يتكلمان إنما بصمت في بواكير الصباح.
شخصياً لا مشكلة لي مع الكلام باختلاف الأوقات لكني وبمختلف الأوقات مقلٌّ فيه. كثيراً ما أفضّل الإصغاء ومعه أميل إلى الاختصار بالكلام. لا أتضايق من أي صمت سوى ذلك الذي يلجأ إليه البشر عادةً حين يكون الصمت سكوتاً مضطرين عليه أو عجزاً عن الكلام في لحظة لا يجدون فيها الكلام ممكناً. الصمت هو بعض من اللغة، وربما لا تكون اللغة لغةً من دون صمت، وفي بعض الأحيان، النادرة بجمالها، يكون الصمت هو اللغة كلها.
في واحد من فصول الكتاب، وكان عن الشعر والصمت، يرى بيكارد أن الشاعر لا يستطيع” أن يملأ فضاء ثيمته كلياً بكلماته. إنه يترك حيزاً واضحاً، يتمكّن شاعرٌ آخر وأسمى أن يتكلّم فيه. إنه يسمح لآخر أن يسهم في الموضوع؛ إنه يجعل الموضوع خاصاً به لكنه لا يبقيه بأكمله لنفسه. لهذا فإنّ مثل هذا الشعر ليس جامداً وثابتاً بل يمتلك سمة محلِّقة في اي لحظة لتنتسب إلى الآخر”.
بموجب هذه الرؤية يكون الصمت تعبيراً، يكون وسيلة مشاركة وتفاعل. صمت الصديقين في المقطع المستل تعبير واقعي عن هذا التشارك الصامت، لكن في الخيال، خصوصا في الخيال الشعري، فإنّ الشعر يتعذر عليه القيام ببعض ما ينتظره القارئ منه، يضيف بيكارد بعد ذلك أن الشعر” فقط حين يكون مرتبطاً بالصمت يكون مناجاة دائمة”.
يحصل هذا في الشعر إنما ليس عبر ما يمكن توقعه من فراغ أو كثافة تعبيرية قد تتحلل إلى كلمات أكثر تفصيلاً وإسهاباً، لا ينبغي لهذا الصمت أن يكون “ضعفاً أو نقيصة” في التعبير، يحصل هذا فقط حين يكون الصمت تعبيراً، حين يكون الشعر، بصمته، محفّزاً على التأمل والانطلاق بفضاء هو أوسع من أن يسمح به الكلام، مجرد الكلام الزاهد بقيمة الصمت الذي يتضمنه، يحصل هذا فقط حين يحفّز الشعرُ قارئه، شاعراً كان أم غير شاعر، على أن يمضي بخياله ورؤاه إلى تصورات ومعاني لم تخطر ببال الشاعر المؤلف نفسه. هذا هو الحيز الذي يتركه الشعر الرفيع للقارئ ليكون به مسهماً في الشعر لا مجرد متلقٍّ سلبي.
***
لقد وضع بيكارد كتابه عام 1948، وفي فصل الشعر ذاته فإنه يتحدث عن أن الشعر قد أخذ يفقد امتيازات الصمت فيه. تلك هي سنوات بات حتى الشعر فيها ينشد أن يكون ممتثلاً للضجيج، ضجيج عالم الحداثة، “ينبغي أن يكون ذلك الضجيج مسموعاً في الشعر كما هو في أي مكان آخر”. وكان الكاتب بهذا يكاد يرثي الشعر، وينعي فيه استلابه، وانقياده في فوضى الحياة الحديثة وصخبها، تردده (الشعر) في لزوم ما يبديه من مقاومة لسوء الاستخدام الذي يتعرض له، يقول بيكارد: “يمكن التغلب (شعرياً) على الضجيج فقط بواسطة شيء يكون مختلفاً تماماً. لم ينتصر أورفيوس على العالم السفلي بأن يصبح مظلماً كالعالم السفلي بل من خلال صوت أغنيته المشرق، المختلف تماماً”. هذا المثال من أورفيوس يجعلنا قريبين من تعبير آخر كان هيراقليديس فيه، هو الآخر كما بيكارد، يعبّر عن فكرة فلسفية إنما أيضاً بمنطق شعري: “أشعل الإنسان نوراً لنفسه في الليل، لأنه ميت، ومع ذلك لا يزال حيّاً. في النوم لمس نفسه كميّت عندما تلاشى نور عينيه، لكن في اليقظة لمس نفسه ليس ميتاً بل نائم فحسب”. الظلام والضوء، المنام واليقظة، هي في التعبيرين تمثلات موازية لثنائية الصمت والكلام.
لكن الصمت ليس نقيضاً موازياً للكلام، نقيض الكلام هو السكوت، بينما نقيض الصمت هو الضجيج. في واحدة من انتباهات بيكارد للطبيعة وصمتها، يمضي إلى أن الطبيعة بتشبثها بالصمت حين استيقاظها فإنها لا تسكت، لا تكفّ عن الكلام، لكنها تغيّر أصواتها في الصباحات إلى ألوان، يشير إلى مثل هذا التعبير ماكس بيكارد فيقول في معرض حديثه عن الربيع، والربيع واحد من أوجه يقظة الطبيعة، يقول: “تنسلّ في الربيع أولى الأزهار بشكل خفي خلال شق في الصمت، إذ تكون كل أزهار الزعفران والخزامى هناك، إنها تطلع بمباغتة كبيرة بحيث يستطيع المرء ان يسمعها تقريبا، لكن الصوت يتغيّر إلى لون؛ إلى ألوان الخزامى الحمر، والصفر الزاهية”.
هذه مقاربة شعرية طبعا لكنها ليست بالبعيدة عن رؤية انطولوجية يستمر الكتاب من خلالها عبر الكثير من المقاربات في تمثلها.
“ينتمي الصمت إلى بنية الإنسان الأساسية”، يقول بيكارد في مقدمة الكتاب، ويختم الكتاب بفصل عن (الصمت والإيمان) يذهب فيه إلى”أنها علامة حب من الله أن يكون لغزاً مفصولاً دائماً عن الإنسان بطبقة من الصمت. وذلك هو ايضاً تذكير أن على الإنسان أن يبقى صامتاً ليقترب إليه”. ماكس بيكارد اللاهوتي الأقرب إلى أفلاطون يعبر بالكتاب عن نزعة صوفية وجودية وبهذا فهو يزداد قرباً من نمط من الشعراء الذين يجدون عادة ما يفتنهم بمثل خيالات هذه الرؤى الطافية في فضاء (عالم الصمت). يشير قحطان جاسم في مقدمته للكتاب إلى أن هيرمان هيسه وريلكه كانا من أشد المتحمسين لبيكارد ورؤاه.