{تجاعيد الماء».. ومسارات النصّ المفتوح

ثقافة 2019/07/09
...

علوان السلمان
  إنّ عملية الخلق الشعري هي وليدة محصّلة قوى المنتج (الشاعر) وخزينه المعرفي ورؤاه المحققة لتجربته في الالتقاطات الواعية للحظة الحالمة.. الموقظة لذاكرة الذات والذات الجمعي الآخر بتأثير اللفظة الشفيفة، والتناسق الجملي، والايقاع الشعري المنبعث من بين ثناياها، فضلا عن تفاعلها البنائي المنتج للنص الذي يستفز ذاكرة المستهلك (المتلقي) ويحثها على التأمّل للكشف عما خلف صوره التي هي فسحة جمالية يستحضر من اجلها المنتج لغة الابداع الحسية والشعورية الجامعة ما بين عناصر الواقع والمتخيل مضافا اليهما الفكرة..
  وباستحضار النص الشعري (تجاعيد الماء) للشاعر مهدي القريشي، واسهمت دار الروسم في نشره وانتشاره ضمن نصوصها/2018.. كونه نصّاً يعتمد حرية التداخل والعوالم النصّية للفنون الابداعية (سرد/ دراما/ تشكيل/ موسيقى..).. باتجاه تأكيد مغاير للثوابت بتجاوزها وسعيه لتفجير اللغة وشحنها بأعلى درجات التكثيف لتحقيق تجربة شعرية حداثية تقوم على وفق المستوى الاسلوبي والبنائي والدلالي بوعي يتخطى المألوف على الصعيد الثنائي (الذاتي والموضوعي)..
(تقول أمّي: الشمس حين تعبر (ذاك الصوب) وبعد ان تلمع جدائلها.. تتسلق جدران الرغبة لتحيي فيه الامام والامام يوصيها ان تشرق في الغد.. فهذا بلد لم تتخم فيه الشمس بشهوة الثلج تموت عصافير الحب وتتيبس ابواب الفقراء ويعطش حتى النهر..
قال الملك: لا مشروع قبل السد.. وقبل ان يغلق دفتره أغلقت الابواب.. ومن ثقب في جدار الفوضى بني السد.. تراءى لي ان الحارس تمثال نصفي لزعيم الامة.. سمعته يتنهّد كغريب على الفرات..
النوارس لا تطأطئ الرأس في مزاجها مع قوس قزح.. تبلّل ذاكرتها بأهداب النهر وتنزف مناقيرها شعرا في نزهة الغراف.. فلا يبقى للشاعر الا ان يصرخ في وجه الوردة..) / ص44 ـ ص45..
  فالشاعر في نصّه هذا يعتمد السردية الشعرية مع تنوع وسائل التعبير ببنية لغوية موحية واستعارات فنية مستفزة للذات المستهلكة (المتلقي).. والتي تنم عن قدرة انتقائية للالفاظ الشفيفة البعيدة عن الضبابية والغموض، وسبك الوحدات الجملية المشكلة لعالم النصّ بمشاهدها عبر رحلة وجدانيّة معبّرة عن أدقّ المعاني بتراكيب لفظية دالة، منسابة انسياب الحركات النصّية المتصاعدة بصورها التي (تتشابك بها الدلالات الفكرية والعاطفية في لحظة من الزمن..) على حد تعبير ازرا باوند، بانساق قادرة على اختلاق الصور الجزئية وتكثيف الحدث الشعري.
الحدّادون / الخيّاطون/ الصفّارون/ السرّاجون/ النجّارون
الكل يقلمون للغد مخالبه ويؤنقون شفة الليل بسراب الدهشة.. (علي الحاج) يضع فحولته على كتفه ويباهي بها أخوة لوط.. يتشمم فحيحها صبية قلبوا صحون اناقتهم.. يندسون في دكانه كالقملة في رأس أشعث.. يصعقهم بِوَلهٍ غجري ويغريهم بالآتي.. مطر يصرخ في جسد الليل فيحوله الى فرات ونخيل.. في دكانه يصنع توابيت للموتى وينشد (هم هاي دنيه وتنتهي وحساب اكو تاليها..؟) يتدحرج صوته من حنجرة الفجر ناضجا تبلله قطرات الدمع فيجف الجسد وتتكسّر اضلاع سرير نفض آخر رقم ذكري.. هل كان السرير يحلم بمطر أنثى وجسده مرفوع بحصير أملس؟؟) ص50..
  فالنصّ يكشف عن منتج ينسج عوالمه في خندق نفسي مأزوم.. متناولا الاماكن (البؤرة الثقافية الدالة..) بجغرافيتها واسمائها (القشلة/ الجامع الكبير/ فلكة عبيد علي/ الطولة.).. (للقشلة رائحة العثمانيين كجثة تتدلى من خيط الريح تجادل ما تبقى من العِرق الضائع..).. والمهن الدالة على اصحابها والبيئة، كذلك يتناول الاحياء التابعة (لقضاء الحي الواسطي) وتوزيعها المناطقي (حي المعلمين/ الحي العصري/ حي الوحدة/ محلات العرب والكرد..).. (اهالي الحي فككوا أزرار الليل ليضيئوا الدرب لابناء العم.. لكن دخان اللغة أزكم ثدي الارض..) /ص48.. فضلا عن ان النص يكشف عن المضمر مما وراء النسق البنائي المقنن ببعض الاجناس الادبية والتاريخية تضمينا.. فضلا عن الخطاب الشعبي (هم هاي دنيه وتنتهي وحساب اكو تاليها) ص50.. الذي يكشف عن ازمة ذاتية مقترنة بواقع مهزوم وزمن بائس.. فضلا عن الرؤية الشعرية الكاشفة عن البؤر الزمكانية المحركة
 له..
 
سلطة العقل
 (أحدهم أقسم بسليمان القانوني.. لما تعلن صلاة الفجر يهتز الزورق في الماء ويتعرّى الماء في النهر وتحمرُّ شفاه النهر من مضغ كلمات الليل ونلتصق كسكارى بقشّ فحولتنا ويتجمّد اللحم الطازج بين أيادينا..) /ص47..
  فالشاعر يتبادل القيم الثابتة.. سواء كانت خارجية تتمثل بالطبيعة وموجوداتها.. أم داخلية تنحصر في الذات، مما استوجب اعادة سلطة العقل وفعلية الواقع. لذا اهتم الشاعر (المنتج) بالطبيعة وتآلف معها.. فشارك العقل الحواس متعتها.. فصار النص ابداعا تعليليا لاتصاله بالادراك عبر الفاظه المختبئة تحت حروفها.. اذ بها يختصر الزمن من جهة ونقل متلقيه الى عوالم الجمال بمزج وجودها الواقعي بالخيال وتحقيق اللذة الشعرية من جهة اخرى..