التركة

ثقافة 2019/07/09
...

جودت جالي
كان قد قرّر أن يعطيه، في الوقت المناسب، كلّ هذه الأشياء الجميلة، فتكون له، ولِمَ لا تكون له، وهو حفيده الوحيد من ولده الوحيد. هذه الساعة الفضيّة التي لا يوجد مثلها الآن، بسلسلتها الناعمة المصنوعة من قطع دقيقة متداخلة مترابطة، وغطائها المزخرف الذي ينفتح بضغطةٍ من السبابة خفيفةٍ فتظهر له الزجاجة الدائرية اللامعة تحتها الأرقام والعقارب السوداء على خلفية بيضاء. قرر أن يحكي له كيف أن جده حملها في جيبه خلال حرب السفربرلك وأورثها لأبيه فكانت لا تفارقه وهو يخوض المعارك في حرب فلسطين الأولى، وحين ورثها هو حرص على لفها بقطعة قماش بازة بيضاء ووضعها في جيب الصدر طوال السنوات التي قضاها في حرب الخليج الاولى. أجل... كان يتفاءل بها ويعتقد أنّها ستخرجه من الخنادق حيا كما أخرجت جده وأبيه من قبل، وقد صدق ظنّه. صحيح أنّها عاطلة منذ زمن طويل، ولكن لو قيّض لها مصلح ساعات ذو خبرة لأمكنه تصليحها وإعادتها الى الزمن تنافس أحدث الساعات دقة. 
إيهْ.. وهذه الميدالية الصغيرة التي حاز عليها في المدرسة الابتدائية عندما شارك في مسرحية عن المقاومة الفلسطينية. في الحقيقة أن الدور كان بسيطا... جندي صهيوني ما أن يظهر على المسرح حتى تصيبه رصاصة ويسقط ميتا. هذا كل شيء... مدة دقيقة أو أقل. غير أنهم وزعوا الميداليات على الجميع بالتساوي. لقد حال لون شريطها الأخضر حريري الملمس، لكن الدبوس وقطعة الألمنيوم الدائرية المطبوع عليها شكل لوجهين، مبتسم وحزين، لا بأس بهما. مع ذلك، لا شكَّ أنّ حفيده سيكون في غاية الفرح، فما شأن طفل لا يتعدى عمره السابعة بهذه التفاصيل؟ على الأرجح سيجد تفاصيل أكثر تشويقا في صور الممثلين الأميركيين المرقّمة الملوّنة والتي كانت تباع في طفولته في ظرف صغير مع العلك وقد جمع منها مئة واحتفظ بها في علبة هي بحد ذاتها قطعة فنية جميلة بشكلها المضلع والورود المختلفة المرسومة على كل جوانبها. وهذا القلم الشيفر... يعطيه له أيضا، قلم خدم معه مدة خدمته كلها حتى التقاعد ولا يزال يكتب ناعما كالزبد، نعم... كان الموظفون يعرفون خطه العريض وحبره الأزرق الزاهي في كل أقسام الدائرة ويعلّقون على توقيعه مزاحا بأنّه “توقيع المدير العام”. 
وماذا بعد؟... هذه العلبة النادرة، علبة الشطرنج الخشبية الصغيرة ذات الحواف المصبوغة بالأحمر والتي يمكن فتحها على شكل رقعة شطرنج. لا يدري أين ومتى فقد ملك ووزير البيادق البيض، وحصاناً وقلعةً من البيادق السود... ربما في الجيش أو في رحلة ما، أو عند صديق استعارها. إن بيادقها الخشبية الدقيقة لها قواعد تلتصق لكي لا تنقلب عند الاهتزاز في قطار أو سيارة. وما همّ حفيدُه إذا كانت ناقصة؟ سيجد حتما طريقة للعب بها. أما هذه المفكرة الأجنبية الصغيرة فقد اشتراها من مكتبة في شارع الرشيد منذ زمن بعيد ولم يكتب بها حرفا واحدا بل احتفظ بها هكذا بصورها السياحية ولوحاتها الملونة.
لكن هذه الهدايا كلها ستظل تنتظر عودة هذا الولد الذي لا يسمع الكلام. كم مرة قال له احذر أن تذهب الى الشارع العام حيث زحام الناس والسيارات فقد تصدمك سيارة أو يؤذيك أحد. لم يعد يوجد في الدنيا أمان. احذر بالذات، إذا سمعت انفجارا قريبا، أن تذهب الى مكانه فهم يضعون عبوة ثانية أو سيارة ملغومة وينتظرون الى أن يتجمّع الناس ويفجّرونها. دير بالك!.. لكنه ذهب، ولم يعد، ولم يعثروا له على أثر. ليس هو الطفل الوحيد الذي لم يعثروا عليه يومها... والى الآن. لكنه لا يزال، بعد مرور ثلاث سنوات، يأمل أن يعود، ولمَ لا؟.. ربما فقد ذاكرته أو ارتعب من شدة الانفجار وهام على وجه فتلقفه بعض من يستخدمون الأطفال للتسول. ربما يستعيد ذاكرته فيعود أو يعيده أحد الى أهله. لقد سمع حكايات وشاهد أفلاما عن أطفال فقدوا لسبب ما ثم جمع الله شملهم بذويهم، مثل ذلك الذي ضاع في الأدغال، أليس للمدينة أدغالها أيضا؟.. لتبق هذه الهدايا الآن، في خزانته الصغيرة هنا، تنتظر صاحبها... الله كريم.