شهدتُ محاضرة لغورو هنديّ تحدّث فيها عن الآليّة “اللاعقلانيّة” التي يعمل بها العقل في بعض الأحيان، وضرب مثلاً يستدعي التفكير فعلاً، بقوله إنّ الإنسان إذا استمع لتسع كلمات مديح وإهانة واحدة فسيظلّ عقله يتذكّر من هذه الكلمات العشر الإهانة فقط وينسى كلمات المديح.
يحفل أرشيف العقل بذكريات مؤلمة تُربك النظام السايكولوجي للإنسان حتى ولو مضت عليها عقود عديدة، فمن منّا لا يحتفظ في دواخله بذكريات مُرّة أو مؤلمة من مراحل الطفولة أو المراهقة تطلّ برأسها بين حين وآخر لتربك سلوك الإنسان اليوميّ وتعرقل اندماجه في وسطه الاجتماعي ككائن سويّ؟ لا أحد تقريباً. لذا فإنّ أوّل مهمّة للمعالِج السايكولوجي الذي يقوم بعلاج المصابين بالفوبيا أو الصدمات هي القيام ببناء حوافز نفسيّة جديدة لديهم وإزالة الذكريات السيئة، أو آثارها، من أدمغتهم، أي محوها تماماً من أرشيف العقل كما تمحى الملفّات الرقمية من ذاكرة الحاسوب: كليك .. ديليت!
لوقيانوس السميساطيّ (ت 192 م) كتب على لسان الفيلسوف ديوجين في مؤلفه الطريف “مسامرات الأموات”، وهو رحلة متخيَّلة إلى العالم الآخر على طراز “رسالة الغفران” للمعرّي وكوميديا دانتي الإلهيَّة، أنّ على الإسكندر المقدوني أن يشرب من نهر “ليثي” إذا أراد أن ينسى الأحزان التي سبّبتها له فلسفة معلمه أرسطو في حياته.
وكلمة (ليثي Lethe) كلمة إغريقيّة قديمة، تعني حرفيّاً “النسيان” أو “الإخفاء”، ونهر ليثي أو (نهر النسيان)، وفقاً للمثيولوجيا الإغريقيّة أحد أنهار الجحيم التي تصيب من يشرب منه بالنسيان التامّ، إذ كان الإغريقيّون القدماء يعتقدون أن الأرواح تشرب منه لنسيان حيواتها السابقة قبيل خلقها من جديد. ومنذ ذلك الحين حفل الأدب الإنسانيّ بالاستعمال الرمزيّ لنهر ليثي، فنجد ذكره على سبيل المثال في “الكوميديا الإلهيّة” لدانتي، وفي “قصيدة عن الكآبة” لجون كيتس، وعمل “دون جوان” للورد بايرون، وقصيدة “النائم” لأدغار آلان بو، كما أنّ لبودلير قصيدة تحمل اسم هذا النهر، أمّا شكسبير فقد خصّه بالذكر في ثلاث من كبرى مسرحياته (هاملت، يوليوس قيصر، وأنطوني وكليوباترا)، وبخصوص الأدب الحديث فسوف تكفينا الإشارة إلى وروده في مسرحية “الجمرة” لصاموئيل
بيكيت.
يمتلك عقار “بيتا بلوكر” الذي توصّل إليه مؤخّراً باحثون هولنديون من جامعة أمستردام خاصيّة الشرب من نهر ليثي، لأنّه ببساطة عقار يزيل الذكريات المخيفة من عقل الإنسان. ونقلاً عن BBC، فإنّ الباحثين توصّلوا إلى هذه النتيجة بعد إجراء تجربة على مجموعة من ستين متطوعاً عرضت عليهم صور عناكب جعلوها ترتبط في مخيّلتهم بصدمات كهربائيّة خفيفة في معاصمهم، وفي اليوم التالي قُسم المتطوّعون إلى مجموعتين، واحدة تناولت عقار “بيتا بلوكر” بينما أعطيت الثانية عقاراً مزيّفاً ومن ثمّ عُرضت عليهم صور العناكب مرّة أخرى ليكتشف الباحثون أنّ المجموعة التي تناولت “بيتا بلوكر” أبدت خوفاً أقلّ من المجموعة الثانية، وهكذا تمّ تحويل النهر الأسطوري إلى حبّة.
الخبراء، ومنهم د.دانيال سوكول من جامعة لندن، يناقشون الآن ليس فاعلية هذا العقار، بل أخلاقيّة التأثير في عمل الدماغ، ويؤكّدون، وربما كانوا على حقّ، أنّ الذكريات السيئة ضرورية جدّاً للخبرة البشريّة، إذ بدونها لا يتعلّم الناس من أخطائهم شيئاً.
ولكن متى تعلّمت البشريّة من أخطائها؟ سؤال لا ينبغي نسيانه.