ثيودور أدورنو: ديالكتيك التنوير والديالكتيك السلبي

ثقافة 2019/07/09
...

نصير فليح
موضوع التنوير من المواضيع الرئيسية في تداولات واقعنا الثقافي، العراقي والعربي، مثلما هو موضوع مهم في السجالات الفكرية على المستوى العالمي ايضا. ورغم الاتفاق على ان منطلقات التنوير الاصلية التي احتفت بالعقل والانسان والعلم وخير البشرية، كانت تطلعا طموحا للارتقاء باوضاع الانسان، فان ما جرى بعد ذروة عصر التنوير (التي تجسدت في القرن الثامن عشر لا سيما في فرنسا) اثار ولا يزال الكثير من الجدل
 والجدال. 
 
النظرية النقديَّة
ومن التيارات الفكرية الرئيسية التي تبنّت مراجعة التنوير ونقده في القرن العشرين هي “النظرية النقدية” critical theory لـمدرسة فرانكفورت، ومن ابرز روّادها ماكس هوركهايمر، ثيودور ادورنو، هربرت ماركوزه. ويعد يورغن هابرماس ابرز ممثليها المعاصرين وحملة موروثها الفكري.
ثيودور ادورنو Theodor Adorno (1903-1969) مثل بقية اعضاء مدرسة فرانكفورت (التي نشطت في فرانكفورت في المانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، قبل ان يضطر اعضاؤها الى مغادرة المانيا والتوجه الى الولايات المتحدة بعد صعود هتلر والنازية) احد ركائز هذه المدرسة، وقدّم مراجعات نقدية للكثير من المفاهيم والتصورات عن التنوير، في كتاباته التي ألّفها وحده او التي اشترك بها مع هوركهايمر. وهي كتابات تجمع بين الفلسفة والنظرية الاجتماعية ودراسة الجماليات، في توجه من مدرسة فرانكفورت لتخطي التخصصيات الضيقة، التي هي في رأي اعضائها نوع من ايديولوجيا تسعى لفصل العلم عن الواقع، وفصل النظرية عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية بدعوى “التخصصية” و”الوضعية”، ومن ثمّ فإنّ “موضوعيتها” المزعومة هي ايديولوجيا في حقيقة الامر. ومن أهم كتب ثيودور أدورنو (ديالكتيك التنوير) Dialectic of Enlightenment و (الديالكتيك السلبي) Negative dialectics.
ورغم ان منطلقات مدرسة فرانكفورت متأثّرة بالماركسية في بداياتها، وهو ما انعكس في كتابات ادورنو ايضا، فإنّه اتخذ موقفاً نقديا تجاه الماركسية في كتاباته اللاحقة، لا سيما من خلال نقده لاوضاع العالم في الفترة خلال وما بين الحربين العالميتين، اي انظمة الشمولية الفاشية والشيوعية، فضلا عن نقده للانظمة الغربية ايضا.
الحالة الابرز التي مثلت نقطة انعطاف في الضمير العالمي ونهاية لمزاعم التنوير (على الاقل بشكلها المتعارف) هي معسكرات الاعتقال النازية وما جرى فيها، ولا سيما (اوشفتز). وادورنو يذهب الى حدِّ القول ان الاستمرار باعمال الفن والنشاطات الخلاقة على ما كانت عليه قبل اوشفتز امر نافل و”بربري” بعد اوشفتز، ذلك ان نسيان او محاولة نسيان ما جرى والاستمرار بتلك النشاطات التي جرت قبل ذلك الواقع الرهيب هو بحد ذاته نوع من لا أخلاقية. وهنا نجد تماهيا بين فكر ادورنو وفكر جان ليوتار، الذي نقد مارتن هايدغر وكل سعي لتخطي ونسيان ما جرى في المانيا من فظائع ابان الحرب العالمية الثانية.
 
ديالكتيك التنوير
وفي (ديالكتيك التنوير) يحاجج ادورنو وهوركهايمر ان ما آلت اليه تطلعات التنوير التي عولت على فكرة التقدم الذي يحرر الانسان من الخوف ويؤسس لسيادته، فكرة افضت الى واقع مختلف تماما، وهو ما تكرّس في السلطوية التي تمثلت في الانظمة التي ترى من يخالفها هو “خارج” أو “آخر” مناهض. ورغم ان نزعة الشمولية تجسّدت بشكل خاص في النازية لا سيما معسكرات الاعتقال التي صار (اوشفتز) رمزا لها، وكذلك في الستالينيّة، فإن الديمقراطيات الغربية مثلت ذلك ايضا وإنْ كان بدرجة أقل. فضلا عن نقده لتصور امانويل كانْت عن عصر التنوير بانه نهاية طفولة الفكر البشري وانبلاج عصر العقل والعقلانية، اذ يلاحظ ادورنو وهوركهايمر كيف ان هذا “العقل” تحول الى “عقل أداتي” instrumental reason، نفعي، يفكر بالوسائل للوصول الى غايات معينة دون التفكير الأوسع بالغايات نفسها، ومن ثمّ فهو بهذا المعنى نوع من “اللاعقل”
 ايضا.
 
الديالكتيك السلبي
يعود ادورنو الى نقد الديالكتيك نفسه من اساسه في كتابه (الديالكتيك السلبي)، إذ ينتقد المنهجين الهيغلي والماركسي لتصوراتهما عن نهاية معينة يفضي اليها الديالكتيك، وهو ما يرفضه ادورنو، ومن هنا عنوان كتابه (الديالكتيك السلبي). فهيغل اعتبر ان ديالكتيك “الروح المطلق” سيفضي الى المجتمع الكامل الذي رآه متجسّدا في الدولة البروسية التي كان هو استاذا جامعيا فيها. بينما كان ديالكتيك ماركس ماديا، يرى التطور الجدلي في صراع الطبقات مفضيا الى دكتاتورية البروليتاريا وتحقيق المجتمع الاشتراكي فالشيوعي. ما يراه ادورنو هو ان لا غاية مطلقة للديالكتيك، ذلك ان الديالكتيك مفتوح النهاية وليس غائيا teleological. 
واختلاف أدورنو عن ماركس وهيغل يمتد  الى موضوع “الهوية” نفسها، ورفضه تصور الاشياء او المفاهيم كيانات ناجزة ذات هويات محددة نابعة من ماهيتها. وكما يقول ادورنو: “ان مبدأ الهوية المطلقة هو بحد ذاته متناقض ذاتيا. فهو يكرر مبدأ اللاهوية ولكن بصيغة مكبوتة ومشوهة”، وواضح هنا ايضا اننا امام احدى سمات الفكر ما بعد الحداثي، التي تعارض رؤية الهويات بوصفها مطلقة ونهائيّة، كما في رفض جان ليوتار “للسرديات الكبرى”. وقد اثر فكر ادورنو ايضا في جاك دريدا باعتبار الاخير، في منهجه التفكيكي، من ابرز ممثلي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.