- 1 -
اذا كانت العادة الجارية في المراسلات أنْ يكون جواب الرسالة برسالة، فإنّ بعض الشعراء لا يروق لهم ذلك، إنّهم يريدون جواباً من نوع آخر،
والسؤال الآن :
ما يريدون ؟
والجواب
إنّهم يريدون من كتبوا اليه أنْ يكون الجواب، ولا ينفعهم أنْ يكون عبر الكتاب .. أو التعلّل ببعض الأعذار والاسباب ...
قال الشاعر :
كنْ جوابي اذا قرأتَ كتابي
لا تُرَدنَّ للجوابِ كتابا
واعفِني مِنْ نعم وسَوْفَ ولي
شغْلٌ وكُنْ خيرَ مَنْ دُعِي
فأجابا
- 2 -
من النادر أنْ تجد رجلاً يصدق اذا قال لك انه يتمنى الموت، ذلك انّ الناس تُحب الحياة، وتحب البقاء الطويل، ولكنّ بعض الشعراء يخالف ويجازف فيقول :
سئمتُ من الدنيا وصحبةِ أهلها
وأصبحتُ مرتاحا الى نقلتي منها
وواللهِ ما آسى عليها وإنني
وانْ رغبتْ في صحبتي راغبٌ عنها
فما زالت الأكدارُ محفوفةً بها
وما زال عنها دائما ذو النُّهى يَنْهى
أرأيت كيف يجازف بالقول :
ان الدنيا راغبة في صحبته ولكنه راغبٌ عنها ..
والسؤال الآن :
كيف لنا ان نستيقن مِنْ ادعائك في ان الدنيا راغبة في صحبتك ؟
انه ادعاء ( سكاكيّ) محض ..!!
السكّاكي كان ينكر الحقيقة والمجاز، حتى كأنَّ المجاز هو صورة من الحقيقة –
أما المخالفة فواضحة في قوله :
انه أصبح مرتاحا للانتقال من الدنيا ...
وكل هذه المخالفات والمجازفات تُغْتَفَرُ من الشعراء ..!!
- 3 -
وهناك من يبلغ به العُجْبُ والغرور الى الحدّ الذي لا يرى فيه نظيراً لنفسه، فهو العالم
الأوحد ...
ولمثل هذا المغرور قال الشاعر :
تقول أنا المملوء علماً وحكمةً
وانّ جميع الناس غيري جاهِلُ
فإنْ كان ما في الناس غيرك عالمٌ
فمن ذا الذي يقضي بأنَّك فاضِلُ ؟
وهذه صفعة موجعة ..
فاذا كان الآخرون لا يملكون شيئا من العلم فمن الذي يحكم لك بالتقدم والتفوق العلمي؟ ذلك ان الفضل لا يعرفه إلّا ذووه...
وهذا ما قاله شاعر آخر :
مَنْ ادّعى العلم ولم يوُصف به
فذاك قد عُرّض للنقصِ
فالعِلْمُ معروف لأربابه
يَظهرُ بالنطقِ وبالفحصِ
فالعلم لا يخفى نفسه ...
يُظهره المنطق ..،
ويظهره فحص العلماء لما يُطرح من آراء وأفكار
- 4 -
واذا كانت العادة أنْ يتبارى الشعراء في رثاء عظماء الرجال، فإنّ بعضهم قد سارع الى رثاء نفسه ليظهر مناقبه ومحاسنه..!!
قال أبو العباس احمد بن يحيى قبل موته بساعة :
وكم شامتٍ بي إنْ هلكتُ بِزَعْمِهِ
وجاذبِ سيفٍ عند ذِكرْ وفاتي
ولو علم المسكينُ ماذا يُصيبه
من الذُلّ بعدي مات قبل مماتي
انه سيموت، وسيذوق الذل بعده من كان يُريد له الموت ..!!
- 5 -
وقال آخر قبل موته بيوم :
تعبنا من الدنيا ومن طول عُمرها
وما بعدها خيرٌ وأبقى وأفضلُ
فعجّلِ لنا بالخير يا خير مُفْضِلٍ
ويا خير مأمولٍ عليه المُعَوّلُ
هل لاحظتَ ما قاله ؟
انه يسأل الله التعجيل في الانتقال الى الدار الآخرة ..!!
وهي لاشك خيرٌ وأبقى وأفضل من الدنيا المتعبة – على حد قوله –
فكأنّه أراد الاخبار عن أنه من الابرار الذين قال عنهم الله سبحانه (انّ الابرار لفي نعيم) وفي ذلك ما فيه من تزكية للنفس لا نستطيع قبولها منه .
- 6 -
وجاء في ترجمة ابن الاديب الشرباصي في ج1 /260 من كتاب (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) للسخاوي انه كان أمّيّا لا يحسن الكتابة ..!
وكذا كان أبوه من المشتهرين بالأدب ..!
وأورد له بيتا من البيت قال فيه :
مَنْ ذا الذي من مقلتيهِ يقيني
هذا الذي أخلصتُ فيه يقيني ؟
أقول :
لو لم يكن الأدب قد ملأ دنيا الناس لما وجدنا شاعراً أمّيّا كالشرباصي على الاطلاق ...
انه كان يحسن قول الشعر والبيئة الغنية بالشعراء والأدباء تُلهم حتى الأميين قول الشعر
والسؤال الآن :
أين نحن من ذلك ؟!