فن كتابة القصة القصيرة جداً ، عريق في الثقافة الإنسانية . لم يقتصر على ( ناتالي ساروت ) في ( انفعالات )فقط ، إذا ما نظرنا إليه من جانب تطور الكتابة في هذا الضرب . فقد برع فيه كتاب عرب مثل ( زكريا تامر ، محمد عيتاني ، محمود شقير ) ويعتبر شقير من المجددين في ذلك ، فقد نقل النص إلى عوالم واسعة ، واستحدث التركيز والقصر والكثافة في المبنى ، بينما حفلت قصص ( تامر والعيتاني ) بالسخرية اللاذعة ، مقتربة من فن الكاركتير ، وقد لحظنا ذلك في كتابات ( شمران الياسري )
أما من الكتاب العراقيين الذين اجترحوا في هذا الضرب من الكتابة مساراً جديداً والذين تميزت قصصهم بالأسلوب واللغة والمعنى وهم (خالد حبيب الراوي، هيثم بهنام بردى، جليل القيسي، محسن الخفاجي، أحمد خلف، فرج ياسين، جمال نوري، حنون مجيد) وغيرهم . لا يختلف المرء مع الآخرين، في كون القصة القصيرة جداً؛ هي جنس أدبي يميل إلى الاختزال والتكثيف، ومن هاتين الصفتين يمكننا القول؛ إنه كفن يخضع للموهبة أساساً، ومن ثمّ يساير وينتظم عـلى وفق الخاصية الذاتية للمنتج، بمعـنى أن إنتاج هذا النوع من الأجناس الأدبية يخضع إلى الكيفية التي يتعـامل بها كل قاص، وبذلك يرتبط هذا بمستوى المعـرفة النظرية المحكومة بالحس الذاتي، ورؤى القاص للظواهر والعـلاقات الاجتماعية، من هذا نرى أن سؤال: عـلى يد من نشأ هذا الجنس ..؟ لا يعـني شيئاً، بقدر ما يكون مهما جداً الكيفية التي سارت عـليها حركة ونماء وتطور الجنس عـلى أيدي الكتـّاب، فإذا اتفقنا عـلى أن (ناتالي ساروت) في انفعـالات؛ كان لها السبق في الكتابة، فإن (عـمانوئيل رسام) كانت له نصوص متقدمة نشرها قبل ظهور قصصها إلى حيز النشر. كما وأن خطوات لاحقة متقدمة خطتها القصة، إذ أصبح لها منظـّرون وقرّاء ومنتجون، أي لم يبق الحال عـلى ما هو عـليه، ولعل ما كتبه الحكيم الآشوري (احيقار) على لسان الحيوان، ينتمي إلى هذا الجنس من خلال التكثيف واختزال الجملة، وتحقيق الضربة . فقصصه لا تزيد على (150) كلمة.
هذه الآراء اعتمدت عـلى حقيقة أزلية تتحكم في تشكّل الظواهر والقائلة؛ لما كان الواقع في تغـيّر وتحول فلا بدّ من تغـيّر الأشكال والأنساق بما يتناسب وطبيعـة المضامين ومعـانيها، وبما يسهم فــي تصعـيد حركة الواقع وتطوره. فكل الفنون والآداب والأفكار والنظريات أنتجتها الضرورة، والقصة القصيرة جداً ما هي إلّا نتاج عـقل، وهذا العـقل تعـامل مع الواقعـة بما يراه مناسباً مع حركة الواقع وطبيعـة صراع أجزائه، لذا فقد اقتضتها الضرورة، ولما كان هذا، فينبغـي أن نُقيـّم المنتـَج ــ بفتح التاء ــ بحسب ما تبدعـه الخاصية الذاتية لمنتج النص، من هذا نرى أن إسهامة القاص العـراقي في هذا الضرب من الكتابة؛ كانت كبيرة، تقف بجدارة مع نتاج كتاب عـرب منهم (محمود شقير ــ محمد عـيتاني ــ زكريا تامر ــ جمال أبو حمدان ــ بسمة النسور) عـلى سبيل المثال، كما وأن تجارب العـراقيين كانت عـلى تباين؛ سواء في البناء أو المضامين أو في اختيار اللقطات القصصية، لكنها تصطف مع بعـضها لتأصيل هذا الجنس، ولعـل تجارب لمثل (عـمانؤيل رسام ــ خالد حبيب الراوي ــ إبراهيم أحمد ــ جليل القيسي ــ ناجح المعـموري ــ حنون مجيد ــ حسب الله يحيى ــ أحمد خلف ــ هيثم بهنام بردى ــ ماجد أسد ــ سعـدون البيضاني ــ حمدي مخلف الحديثي ــ صلاح زه نكنة ــ محمد رشيد، أسماء محمد مصطفى، إبراهيم سبتي، فرج ياسين، جمال نوري، حمودي الكناني، حيدر عاشور) وغيرهم هي تجارب ومحاولات جادّة لتأصيل وترسيخ أسس جديدة لهذا الفن من منطلق الخاصية الذاتية المنوه
عـنها أعـلاه
.لقد تعددت إصدارات الكتّاب في هذا الجنس، وغدت لهم بمثابة هوية إبداعية، كما هي عند كل من (حنون مجيد، سعدون البيضاني، حمدي مخلف الحديثي). كمال وأنهم تمكنوا من تجاوز تجربتهم ورفدها بتجربة جديدة يمكن الوقوف عندها.