حاوره: كه يلان محمد
كتابة الرواية جولات إبداعيَّة تتطلبُ توظيف ما تراكم من الخبرات المتراكمة لإجادة المهارات في الصياغة وبناء الشكل المقنع للمادة المرويَّة. غني عن القول بأنَّ الاسترسالَ في السرد ورصَّ العبارات لا يجعلان العمل الأدبي بجودة عاليَّة، بل إنَّ هذا النوع من الكتابة ينتحلُ علامة الرواية من دون أنْ تكونَ له بصمة فارقة من خلال التناغم بين أجزائه المعبرة عن الفكرة الناظمة لإيقاع القصة. الأمر الذي يكسبُ الرواية قيمة فنيَّة هو المسافة الفاصلة بينها وبين المؤلف، إذ لا يفتعل الأخير الحدث أو الحوار لتمرير قناعاته الشخصيَّة، ولا يثقل بصوته اللغة المطبوعة بخلفيَّة الأجواء الناشئة من بيئة النص.
كسب الروائي سعيد خطيبي جولاتٍ متتابعة في خطه الإبداعي، إذ تمكَّنَ صاحب "نهاية الصحراء" من اكتشاف مداخل متعددة للتأليف الروائي بدءاً من التاريخ وصولاً إلى الواقع وليس انتهاءً بمنجم الهامش الذي يدفع ثمناً باهظاً للحراك الاجتماعي والسياسي خلال المرحلة الانتقاليَّة التي تشهدها الكيانات المُجتمعيَّة في روايته الأحدث التي صدرت بدمغة هاشيت أنطوان بعنوان "أغالب مجرى النهر" يحفرُ سعيد في واقع البسطاء المغمورين، كاشفاً تفاصيل موضوعة التبرع بالأعضاء البشريَّة في سياق تناول حياة عائلة تمتدُ حلقاتها لثلاثة أجيال.
لمعرفة رؤيته لمفهوم الكتابة وتكوين العوالم الروائيَّة كان لنا حوارٌ مع سعيد خطيبي، فهو يناقشُ آراء عددٍ من الأسماء الإبداعيَّة، معلقاً بالتوضيح والاستفهام التقريري على ما يكون بمثابة المبادئ في البرنامج الروائي.
* يرى ستيفن كينغ أنَّ الروايات الجيدة تبدأُ بالقصة ثم تتقدمُ إلى الموضوع. كيف تكون البدايات في برنامج كتاباتك؟
- برأيي إنَّ الرواية الجيّدة تبدأ من محاكاة للواقع من غير أنْ تكون مطابقة له، تستلهم من الواقع وتعارضه. تنطلقُ من الواقع ثم تبتكر واقعاً آخر لها. الرواية هي مواجهة ضدّ المسالمات، والسّير عكس السّائد. برأيي إنَّ الرواية تبدأ بشخصيَّة، تبدأ من الإنسان. الفرق بين رواية وأخرى، هي القدرة على خلق شخصيات وإقناع القارئ بها أو الفشل في ذلك. الفرق الآخر إنَّ الرواية لها إيقاعها وموسيقاها. الرواية الجيّدة تستأثر بموسيقاها، وتفلح في إمتاع القارئ مع تحريضه على طرح السؤال.
* هل توافق سكوت فيتزجيرالد في رأيه بأنَّ القصص الجيدة تكتبُ نفسها تلقائياً، أما القصص الرديئة فعليك أنْ تعملَ جاهداً لكتابتها؟
- هل مقياس «الجيّد» و«الرديء» في زمن فيتزجيراليد هو نفسه اليوم؟ برأيي لا توجد قصة جيّدة أو أخرى سيّئة. المعايير من شأنها أنْ تختلفَ من شخصٍ إلى آخر، من زمنٍ إلى آخر. من خصائص الأدب هي ذاتيَّة التّلقي. ما يعجبني قد لا يعجب غيري، والعكس صحيح. مقياس الأدب يتغير، لكن الشّغف بالكتابة مثل الشّغف بالقراءة لا يتغيّر. أتجنّب الحكم على نصّ بالجودة أو الرّداءة. كلّ نصّ سيئ قد يحتوي على هامش من الجودة، وكلّ نصّ جيّد قد تتسرّب إليه هفوات. الأحكام المطلقة تنطبق على الرّياضيات لا الأدب.
* ما هو رأيك بشأن مقولة "كافكا" بأنَّ الكاتب عندما يتوقف عن الكتابة يكون أشبه بالوحش؟
- من يقضي حياة في الكتابة، يصعبُ عليه مفارقتها، إنْ فعلَ ذلك فإنَّما يخون نفسه. الكتابة مثل الحبّ، تحتمل الوفاء لا خيانة العهد. هجر الكتابة يؤدي إلى فقدان الحريَّة. تتيح لنا الكتابة تحمّل وطأة الأزمنة التي نحيا فيها.
* يقول "أسكندر حبش" لا أحد يجيد التحدث عن أدبه سوى الأديب نفسه، كيف تتحدث عن تجربتك في كتابة الرواية؟، هل ذاب الجليد بينك وبين التأليف الإبداعي بعد إصدار أعمالٍ ناجحة؟
- لا أجيد الحديث عن كتبي. أثق في رأي ناقد، في رأي قارئ. بوسعي أنْ أحكمَ على أعمال الآخرين، لكنني أنتقد نفسي. عندما يصدر كتابٌ لي أخشى إعادة قراءته، لأنني سأغرق في نقد ذاتي. أقرّ بأنني أبذل كلّ جهدي في كلّ كتاب، أقدّم أفضل ما لديَّ من أجل قارئ أجهله. أفضل أنْ يتحدّث غيري عن كتاب لي. أصدّق النّقد وأرتاب من المديح.
* برأي "أرنست همنغواي" أنَّ الأمر الأكثر تعقيداً في كتابة الرواية نهايتها. ماذا عنك؟ هل لاحظت بأنَّه من الممكن المناورة مع غواية الاسترسال؟
- أتفق مع هذا الرّأي. الرواية هي فنّ لا منتهٍ. نعرف أين تبدأ، لكنْ يتعسّر علينا معرفة خاتمتها. كيف نقرّر نهاية رواية؟ الخيار يصير ذاتياً، كلّ رواية تحتملُ تتمة. لا بُدّ من شجاعة من أجل وضع النّقطة الأخيرة. الكتابة هي فنّ الحذف كذلك، لأنني أؤمن بما يمكن أنْ نسميه الاقتصاد في الكتابة. الرواية ليست أنْ نقول كلّ شيء، فالقارئ له الحقّ في المناورة، في تأويل الأشياء التي لم نكتبها.
* ما هو تعقيبك على رأي "هاروكي موراكامي" الذي يعتقدُ بأنَّ ما يحدد الأسلوب والشكل في طبخة الكتابة هو الدافع؟
- أو الشّغف. أرى الكاتب مثل عداء ماراثون أو سبّاح مسافات طويلة. الكتابة تتضمّن تقسيم الجهد من البداية إلى النهاية، تقسيم الجهد على مراحل. من المحتمل أنْ ننطلقَ في رواية بناءً على فكرة بعينها، ثم الفكرة سوف تتغيّر مع مواصلة الكتابة. وكذلك الأسلوب والشّكل. بالنّسبة لي، تتطلّب رواية جهد سنوات. وهي مدّة زمنيَّة من شأنها أنْ تجعل الأسلوب والشّكل يتغيّران مقارنة بما كانا عليه في مستهل المشروع.