ما الذي دفع {مس اوستن} لأنْ تُصْبحَ أسوأ المخربين صيتاً في عالم الأدب؟

ثقافة 2025/03/26
...

كيتي روزنسكي 

ترجمة: أنيس الصفار 

"كاسندرا أوستن" واحدة من اسوأ المخربين شهرة في عالم الأدب الانكليزي. ففي أواخر حياتها، وبسبب عمل تخريبي يكاد يستعصي فهمه، أقدمت الشقيقة أوستن الكبرى على إحراق رزم من المراسلات المكتوبة بخط شقيقتها جين التي توفيت في العام 1814، أي قبل ذلك بنحو 30 عاماً. مئة وستون رسالة فقط هي التي نجت من ألسنة النار التي أتت على آلاف الرسائل التي يعتقد أنَّ جين كتبتها ويعتقد بما يقارب اليقين أنها كانت ستوفر مجتمعة معلومات قيمة لا تقدر بثمن عن إحدى أكثر الروائيات غموضاً وإثارة للتساؤل. هذه الإبادة الناريَّة غدت الفعل المميز الذي عرفت به كاسندرا وجعل عشاق أوستن ومؤرخي سيرتها على مدى القرون اللاحقة يئنون حسرة ويأساً.

كيف استطاعت أقرب ثقاة جين أنْ تمحو جزءاً حيوياً جوهرياً من إرثٍ أدبي كهذا وتحرم قرّاء المستقبل من فرصة التعرف بشكلٍ أفضل على المرأة التي تقف وراء تلك المؤلفات الستة الرائعة وفهمها؟ ما الذي حاولت كاسندرا إخفاءه؟ هذه الأسئلة هي جوهر العمل المتلألئ بألمع النجوم الذي تقدمه هيئة الإذاعة البريطانيَّة "بي بي سي" في أربعة أجزاء المقتبس من رواية الكاتبة "جيل هورنبي" الأكثر مبيعاً للعام 2020 والذي يحاول أساساً فهم تصرفات كاسندرا من خلال الغوص في عمق الرابطة الوثيقة المذهلة التي كانت تشدها الى أختها. هذه العلاقة بين الشقيقتين، التي ألهمت جين وأسعفتها في مهنتها ككاتبة، هي إحدى أشدّ العلاقات قرباً الى حدود فاقت المألوف في الأدب الغربي بأكمله. تقول "كيلي هاويس"، التي تؤدي دور كاسندرا: "أعتقد أنَّ حب كل من الأختين لأختها كان أسمى وأعمق ممَّا ألفه معظم الناس. حب بكل ذلك العمق والتفاني كان شيئاً فائقاً للمعتاد باعتقادي".

مسلسل "مس أوستن"، الذي تتألق فيه الممثلة "باتسي فيرّان" بدور جين الى جانب "روز ليسلي" و"جيسيكا هاينز"، تدور احداثه عبر مرحلتين زمنيتين. ففي الزمن الحاضر للمسلسل، الذي يأخذ مجراه بعد عدة سنوات من وفاة جين بمرض غير محدّد وهي بعد في الحادية والأربعين من عمرها، نرى كاسندرا فتاة في منتصف العمر تهرع مسرعة الى منزل صديقتها الشابة "إيزابيلا فاول" (لسلي) بعد أنْ بلغها أنَّ والد إيزابيلا قد توفي لتوه. 

فبوفاته غدت إيزابيلا غير المتزوجة يتيمة تائهة وعلى وشك أنْ تفقد منزلها كذلك.. بيد أنَّ دوافع كاسندرا لم تكن إيثاراً خالصاً مجرداً، فوالدة إيزابيلا الراحلة "إيليزا" كانت صديقة مقرّبة جداً من الشقيقتين اوستن وكثيراً ما كانت تتبادل مع جين رسائل لا حصر لها.

تلك المراسلات، التي تموج بالشائعات والأقاويل وخفة روح كاتبتها المرهفة التي لا تهدأ، كانت مخبأة في منزل آل فاول. وبينما كاسندرا تقلب محتويات هذا الكنز من الاسرار، ينتقل الزمن عائداً بنا الى ماضي حياتها مع جين .. تلك الرسائل تتحول الى قناة لا يفهم عبرها المشاهد جين بقدر ما يفهم كاسندرا نفسها، التي مرَّ عليها التاريخ بذكر عابر كما لو كانت لشقيقتها الصغرى المتألقة مجرد تابع مطيع منطفئ لا بريق له.. بل حتى مثير للملل. 

نرى في المسلسل كاسي اليافعة، تؤدي دورها "سينوف كارلسن" (الشديدة الشبه بهاويس الى حد لا يصدق بحيث إنَّ الاثنتين ظهرتا ذات مرة بدور أم وابنتها في مسلسل عرضته قناة سكاي ماكس البريطانيَّة) فتاة تفور بالحيويَّة، مغرمة بعمق مؤثر بخطيبها، وهو عم إيزابيلا" (يؤدي دوره النجم الصاعد كالام لينتش). وإذ تمضي كاسي في قراءة الرسائل يبدأ جانبٌ آخر من حياتها الخاصة بالتكشف أمامها، كما تقول المخرجة "آيزلنغ والش" التي تتابع مستطردة: "بدأت ترى ما كان الناس يتصورونه عنها.. كيف أنَّ شقيقتها جين كانت تشعر وتعلم بأنَّ كاسي تحيا حالة حب". الشيء المؤثر بعمقٍ هنا هو الفراق الوشيك المنتظر الذي كانت جين تتوقعه بينها وبين كاسي بعد أنْ تتزوج، إذ تقول: "لا يمكنني تقبل ذلك بسرور.. لكني أعتقد ألا مفر لي من تحمله.." لأنَّ كاسي سوف تضطر في النهاية، وهي الباقية على قيد الحياة، أنْ تعيش عقوداً من عمرها بعد رحيل اختها الحبيبة.

يتجلى ذكاء الكتاب الأصلي، وكذلك العمل الدرامي المقتبس عنه، في تقديم قصة كاسندرا بكل ما فيها من فطنة وخفة روح وحيويَّة ولفتات ساخرة كانت من السمات الملازمة لـ "جين أوستن" نفسها. تقول هاويس: "لكأن العمل هو الرواية السابعة لأوستن.. فهو يبعث إحساساً بأنه امتداد للأعمال الأصليَّة .. وهذا هو ما أحببته فيه .. فهو يضم جميع العناصر المعبّرة عن أوستن". بيد أنَّ قصة حب كاسي لم يقدّر لها أنْ تعيشَ طويلاً وانتهت نهاية مفجعة، فبعد عامٍ واحدٍ من خطوبتهما توفي توم متأثراً بالحمى الصفراء في جزر الهند الغربيَّة في العام 1797 تاركاً وراءه كاسي شابة مكلومة الفؤاد عاقدة العزم على تكريم ذكراه بعدم الزواج ثانية ابداً. من بين روايات جين الست كانت حكايتها تلك أقرب ما تكون الى رواية: "إقناع" التي تنقطع الرومانسيَّة فيها قبل الأوان بحزنٍ صامتٍ ووعي متنامٍ بما كان يمكن أنْ يكون.

بيد أنَّ قصَّة الحب الأعظم على الإطلاق هي تلك التي كانت بين كاسي وجين. تقول فيرّان، التي تقوم بدور جين مضفية على الكاتبة صفتي الحيويَّة والعاطفة المفرطتين: "لم تكونا مجرد شقيقتين بل صديقتين لبعضهما كأحسن ما تكون الصديقة لصديقتها، كانتا رفيقتي العمر لبعضهما وربما حب العمر كل منهما للأخرى". كانت جين تصغر كاسي بنحو ثلاثة أعوام، ولكونهما الفتاتين الصغيرتين الوحيدتين في منزلٍ ممتلئ بالأولاد، ليس بسبب الأشقاء أوستن الستة فقط بل أيضاً التلامذة الذكور الذين كان والدهم "القس جورج" يدرسهم في قسيسيَّة ستيفنسون بهامبشاير لا يعود مستغرباً أنْ يتوطد بين الأختين ذلك التحالف الوثيق منذ سن مبكرة.

في أواخر القرن الثامن عشر دخلت الشقيقتان أوستن سن البلوغ، وعندئذ "كان المستقبل المتوقع لهما هو أنْ تلتقيا بأحدٍ ما ثم تتزوجان، وسيكون ذلك الشخص على الأرجح معروفاً لدى العائلة"، كما تقول المخرجة والش. كان القرين المرجح لكاسندرا هو فاول، وهو أحد تلاميد القس أوستن في قسيسيَّة ستيفنسون، كما كان صديقاً مقرباً للعائلة. في مسلسل "مس أوستن" تتخيل كاتبة السيناريو "أندريا غيب" مشاعر جين المتضاربة وهي ترى الاستعدادات جارية لزفاف شقيقتها الحبيبة في ستيفنسون. يأتينا صوت الممثلة فيرّان معلقة بصوت أبح: "لا أستطيع أنْ أتذكر تماماً كيف كنَّا نمضى أوقاتنا في تلك الأيام التي سبقت خطوبة شقيقتي". تقول فيران: "لقد كان هناك في أعماق جين توترٌ مثيرٌ للاهتمام، فهي ترى كاسندرا توفق في حياتها الخاصة، مستقلة عن جين، وفي الوقت نفسه تتمنى استبقاء كاسندرا لنفسها بدافع أناني".

لا عجب إذن أنْ تكون سعادة جين لشقيقتها مشوبة بقلق، فالزواج سوف يغير الى غير رجعة طبيعة الديناميكيَّة بين الاثنتين، في حين ستستأثر الأمومة بشكل محتم تقريباً باهتمام كاسي. أكثر من ذلك أن جين نفسها، التي آثرت ان تبقى تحوم عند حواشي المجتمع دون اقتحامه لتتمكن من مراقبة ودراسة كيف يعيش الناس ويتصرفون في حياتهم بشكل أفضل، كما تقول فيران، سينتظر منها ان تتبع خطى أختها على ممشى الكنيسة. وحين تفعل ذلك سيكون من المحتم عليها تقريباً أن تضحي بكتاباتها.

تلك إحدى المفارقات الكامنة في صميم حياة الكاتبة: فلو انها بددت قسطاً أكبر من جهدها في البحث عن قصة حب حقيقيَّة في حياتها الشخصيَّة ربما ما كانت ستترك لنا أبداً بعض اكثر الأعمال الرومانسيَّة خلوداً في عالم الأدب. تقول فيرّان: "من المثير للاهتمام حقاً في نظري أن تتمكن امرأة عاشت حياتها بلا زوج، مختارة حياة العنوسة طوعاً كما يبدو، من إيداع كل هذا القدر من طاقة مخيلتها في الكتابة عن الحب ومنح شخصياتها تلك النهايات السعيدة التي كانوا يتمنونها ويتوقون اليها. أنا نفسي أجد هذا مثيراً للإعجاب والأسى معاً لسبب، فهذا بالذات يزيدني شعوراً بعمق إنسانيَّة جين أوستن".

لم يمض وقتٌ طويلٌ طبعاً حتى أصبحت كاسي "عانساً" هي الأخرى. لأنَّ كاسندرا حين قطعت على نفسها ذلك العهد بعدم الاقتران بأي رجلٍ آخر بعد توم لم تكن تقصد البقاء وفيَّة لذكرى خطيبها الراحل فقط، بل كانت ايضاً قد اختارت البقاء الى جانب شقيقتها. توضح المخرجة والش هذا لجانب فتقول: "غدت مهمتها في الحياة هي معاونة جين وتمكينها مما تريد". وعندما انتقلت الشقيقتان أوستن في وقت لاحق للعيش في منزل صغير في قطعة أرض تابعة لإقطاعيَّة شقيقهما الموسر إدوارد في "تشاوتاون" بهامبشاير تفرغت كاسندرا لإدارة المنزل كي تمكن جين من إفراد مزيد من وقتها لعملها. تقول والش: "لقد نجحت في خلق مكان مريح آمن يمكنها من الكتابة، ولهذا السبب ألفت جين معظم رواياتها في ذلك المنزل".

في المسلسل نرى جين تقرأ بصوت مرتفع على مسمع اختها الجذلة نصاً تعمل فيه، عندئذ يتساءل المرء إن كانت هذه بالفعل هي العادة التي درجت عليها الاختان فساعدت في صقل ذلك الحوار الذي يفور حيويَّة. تقول ليسلي: "نرى هذه الصورة الجميلة لهما وكأن كل منهما لجنة تحكيم للأخرى، نرى صورة كاسي وهي توجه جين وتمدها بالأفكار والاراء، لقد كان ذلك رائعاً من وجهة نظري". بهجتهما تلك ما كان بالوسع أنْ تتعزز لولا أنَّ جين كانت تستمد الإلهام مراراً من الحلقة الاجتماعيَّة المحيطة بعائلة أوستن. ذلك أنَّ من الصعب في الواقع إغفال الشبه الشديد بين زوجة شقيقهما العنيدة ماري وشخصيَّة ماري بينيت في رواية كبرياء وتحامل بسيمائها المنمقة وسلوكها المفعم بالخيلاء".

بيد أنَّ حريَّة الأختين، سواء في الجانب المالي او الإبداعي، كانت هشّة قلقة. فقد وفر لهما شقيقهما المنزل في "تشاوتاون"، لكن قبل تلك اللفتة الكريمة منه كانت الشقيقتان ووالدتهما الأرملة دائمتي التنقل بين مساكن مستأجرة وزيارة الأهل والعائلة، ورغم كل الاحترام الذي أحيطتا به كانت حياتهما كامرأتين غير متزوجتين تفتقر الى الاستقرار. تقول المخرجة والش إنها تعمدت جعل الكواليس والاثاث تعكس شعوراً بأنها "متعبة تحمل بصمات من يعيشون فيها" بدلاً من ملء الغرف بأثاث ومقتنيات من ذلك العصر للتذكير بأنَّ أفراد العائلة كانوا من المترددين على الكنيسة وليسوا أغنياء". قبل التصوير ناقشت هاويس (كاسندرا) مع هورنبي (كاتبة النص) كيف أننا اليوم نقرأ كتب أوستن بنظرة مختلفة جداً يبرز فيها الاعتبار الرومانسي الى مقدمة المشهد في حين ان واقع حالهما كان دراما حقيقيَّة.

تضيف هاويس ملاحظة للايضاح فتقول: "لقد كان شعور المرأة بالتهديد هائلاً". فرفضها عرضاً للزواج – مثلما فعلت جين مراراً عديدة – كان معناه المقامرة بأمانها المستقبلي. لنتأمل ملياً إذن كيف رفضت "إليزابيث بينيت" في رواية "كبرياء وتحامل" محاولات السيد كولنز المتودد للتقرب منها، ثم كيف قبلته صديقتها "شارلوت لوكاس" بسرعة "بدافع الرغبة المحضة غير العابئة بالمؤسسة" (وذلك بالتأكيد أحد أشد منعطفات التعبير لدى أوستن اثارة للأسى رغم واقعيته العمليَّة). تمضي هاويس فتقول: "وفاة قريب لامرأة آنذاك كان يمكن ان ينتهي بها الى الشارع".

مع ذلك يكشف لنا مسلسل "مس أوستن" ان هاتين المرأتين قد تمكنتا من عيش حياتين غنيتين الى حدٍ لا يصدق رغم كونهما غير متزوجتين (بل ربما بفضل ذلك). تقول ليسلي إنَّ هنالك دائماً ميلاً عند قراءة أوستن للافتراض ببساطة أنها لم تكن موفقة في الحب لمجرد أنها لم تتزوج ابداً، في حين أن الحب الذي تشاطرته مع اختها كان أعظم من أي حب آخر، حتى يكاد يتراءى للمرء أنَّ جين ما كانت لتنشد ما هو أعظم منه، لأنهما معاً كانتا قوة ليست كمثلها قوة".

حين نقرأ اعمال أوستن يلحُّ علينا إغراءٌ قويٌّ بملء الفجوات المفقودة في قصة حياتها. تقول فيرّان (جين): "يبدو كأن هناك دائماً غموضاً مثيراً للتساؤل حول شخصيَّة الفنان صاحب العمل". إلا أن جين كانت شخصيَّة ميّالة بعمق الى الانطواء والخصوصيَّة. تلفت والش نظرنا الى أنَّ رواية جين الأولى نشرت ببساطة تحت: "بقلم سيدة"، دون أيٍ ذكر لاسمها مطلقاً.

في الحقيقة لم يكشف عن هويَّة "جين أوستن" كمؤلفة لأعمالها إلا عقب وفاتها، وفي تلك المرحلة كان انبهار جمهور القراء بها آخذاً بالتعاظم. يظهر لنا مسلسل "مس أوستن" مدى تفاني كاسندرا في حماية أسرار شقيقتها وعالمهما الذي تشاطرتاه من أعين الفضوليين، وثمة مشهدٌ في الحلقة الأولى يشي بذلك حين يقترح رجل دينٍ مسرف في التودد والمغالاة يزعم أنه من أشد المعجبين بـ"عائلة مانسفيلد" أن عبقريَّة جين تستحق كتابة سيرة حياتها بكل توسع، لكننا نجد كاسندرا، الحريصة دوماً على حماية خصوصيَّة شقيقتها، تتملص من ذلك ببراعة وترد عليه "أن كل ما يحتاج المرء لمعرفته عن جين أوستن مودع في صفحات رواياتها".

عند النظر الى الأمر من هذه الزاوية قد يبدو قرار كاسندرا بإحراق تلك الرسائل فعلاً دافعه الحب لا التخريب، إذ هل يمكن لشقيقة بذلت لعطاء شقيقتها الأدبي كل ما بذلت أن تقف ضد رغبات جين بخصوص أرشيفها؟

تقول هاويس: "أعتقد أنَّ كاسندرا قد نفذت ما كانت مكلفة به بتفانٍ لا يصدّق، وبذلك كانت وصيّاً أميناً رائعاً". تضيف هذه الممثلة التي أدت دور كاسندرا انها، أي كاسندرا، كانت ستحمي جين مهما كلفها ذلك من ثمن، ولا ينبغي لأحدٍ أنْ ينقمَ عليها بسبب ذلك.


عن صحيفة الاندبندنت