التَّعريفُ بوصلةُ الحضارة

ثقافة 2019/07/11
...

 
محمّد صابر عبيد
 
التعريف هو أصل الكلام وجوهره وجذره الأساس حين يريد إيصالَ رسالة دقيقة ومُحكمة وهادفة لا تقبل اللبس أو الاختلاف، فمعنى الفعل الرباعيّ (عَرّفَ) إنّما يعني وضع المُعرَّف عارياً واضحاً خالياً من الإغماض والتشويه أمام المُعرَّف له، إذ يؤدّي التعريف وظيفته على أفضل ما يُرام بحيث يصل المُعرِّف والمُعرَّف والمُعرّف له إلى درجة عالية وحاسمة من التطابق في القصد والفهم والبرهان، ليكون الكلام مفيداً ومُنتِجاً وأصيلاً وفاعلاً في دائرة السجال والحجاج والتوجّه السليم نحو منطقة الحقائق التي لا تحتاج سوى الدقّة والمعلوميّة، وهو ما يجعل من التعريف ممارسة حضاريّة ومعرفيّة لا غنى عنها لأيّة أُمّة تنشد طريق التقدّم والتطوّر والانتماء الحرّ للراهن الزمنيّ، وتتطلّع نحو مستقبل زاهر أكيد بعيداً عن الأمنيات والدعوات والأحلام المجرّدة وهي تتحرّك في حيّز العجز لا فضاء العمل والاجتهاد.
كتاب (التعريفات) للجرجاني معجمٌ يضع له عنواناً بالغ القصديّة لجمع مفرد (التعريف) نظراً لوعيه المبكّر في أهميّة الكلمة بمفردها وجمعها وقيمتها التدليليّة، وهو من أوائل المعاجم في القرن التاسع الهجريّ ويتضمّن تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في العلوم والفلسفة والمنطق واللغة والفنون والفقه في عصره، بما يجعل الفضاء الاصطلاحيّ الذي تنهض عليه العلوم جميعاً خاضعاً خضوعاً أصيلاً لفكرة التعريف وسلوكها في ميادين الكلام، ولولا معرفته بأهميّة مفردة التعريف وخطورتها لما اصطلح على كتابه ـ(التعريفات) ولكان اكتفى بكلمة (معجم) المتداولة آنذاك، لكنّ كتابه يتجاوز الصفة المعجميّة المعروفة تلك الأيام على نطاق واسع ليدخل في صفة تعريف الأشياء ضمن سياقها الحضاريّ الخارج – لغويّ.
إذا كانت حضارتنا العربية القديمة في بعض مفاصلها تقرّ بجدوى التعريف وحساسيّته وقوّته البرهانيّة وتعمل به فما بالنا اليوم نتجاهل تعريف أدواتنا في الحياة جميعاً، فأوروبا وأميركا والعالم المتقدّم من آسيا وأفريقيا اليوم وصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل عنايتهم بتعريف الأشياء وتحديدها وبيان مقاصدها، والعمل بموجب تعريف كلّ شيء من أشيائها بدقّة وموضوعيّة وقصديّة وأناة وإشراق، حتى لا يوجد خلط بين مفهوم وآخر، وبين آليّة وأخرى، وبين مصير وآخر، لأجل أن يكون الأمر المطلوب في مكانه المناسب وقيمته المناسبة ووظيفته المناسبة.
 يضع التعريفُ المفهومَ في قياسه الطبيعيّ المقصود له فعلاً من دون زيادة أو نقصان أو إبهام يخضع للاحتمال والتأويل، فمثلما تؤدي الزيادة إلى ترهّل المعنى وتشتّته وضياعه فإنّ النقصان يخلّ به ولا يصل إلى من يحتاجه على النحو المناسب والمفيد، فضلاً عن ما يقوده الاحتمال من تعدّد في المعنى قد يحرق المعنى الأصليّ المُراد ويحوّله إلى رماد، بما يسهم في إرباك المنظومة الحضاريّة التي تحمل على عاتقها تطوير بنية المجتمعات وتقدّمها وتحضّرها في السبيل نحو مستقبل أفضل لشعوبها.
أمّا نحن فلا نبالي بالتعريف ولا نُعنى ببناء ثقافة خاصّة بالتعريفات كي نتمكّن من القبض على الدلالات والسيطرة على حراكها المُنتِج للمعرفة، ويكفينا في الأغلب الأعمّ ما يترشّح لنا من المعنى العام الفاقد للخصوصيّة والتحديد لأنّنا لسنا طلاب حضارة ولا تعنينا الأشياء على وجه الدقّة والتخصيص، فنطلق أحكامنا تجاه المفاهيم والمصطلحات بلا تحرّز ولا مبالاة وكأنّ ما يحيط بنا يدور في فلك معرفيّ واحد، ولا فرق بين أبيض وأسود سوى في درجة اللون، ولا بين يَمين ويسار سوى في الجهة، ولا بين عالم ومعلوم سوى في الوضع الصرفيّ.
كتاب (التعريفات) هذا ينبغي أن يتكرّر دائماً ويتجدّد على مستوى الإضافة والحذف والتعديل والتصويب باقتراحات جديّة متخصّصة في العلوم المتداولة جميعاً، على نحو يجيب عن أسئلة العصر ويملأ الفراغ المعرفيّ الذي قد يحصل من دون وجود تعريفات محدّدة للأشياء تتجدّد بتجدّد وعي الإنسان وثقافته واتصاله بالعالم، ويضع كلّ شيء منها في مكانه الصحيح الذي لا يرادفه ولا يقبل غيره ولا يعوّض عنه ولا يستبدله مهما كانت الأسباب، حتى نتمكّن من مجاراة العصر بآفاقه الحضاريّة وهو يتقدّم بسرعة جنونية (افتراضيّة وواقعيّة)، ولا ينتظر الكسالى الغافين على ذاكرة محتشدة بأناشيد الماضي التليد، أولئك الذين ليس بوسعهم تعريف أشيائهم بدقّة ويكفيهم التأمّل البيانيّ المزدان بالمبالغة في مرآة الأسلاف.
الفرق الحاسم بيننا – أُمّةً وأفراداً - وبين العالم المتحضّر ليس غير فرق دقيق جداً في التعريف وما يترتّب عليه من إجراءات ثقافيّة وميدانيّة، العالم المتحضّر يولي هذه القضية عناية مركزيّة لها علاقة بالستراتيجيات الكبرى في الحياة، ونحن لا نعيرها أيّ اهتمام ولا نحفل بها وكأنّها غير موجودة أصلاً، والتعريف بلا أدنى شكّ هو نقطة البدء الأولى في أيّة ممارسة حضاريّة تمتلك مشروعاً في المدنيّة والمعرفة والحياة، وانعدام التعريف يقود إلى نوع من الفوضى في التعامل مع مفردات الحياة التي هي بحاجة ماسّة لتعريف شامل وواضح يسمح بالتعامل معها على وفق خصائصها التعريفيّة الدامغة، فهي بلا تعريف تظلّ تائهة لا يمكن ضبط حراكها المعرفيّ والثقافيّ والسلوكيّ على الوجه المناسب والمطلوب.
تشير المقولة الشهيرة (في البدء كانت الكلمة) إلى مدى ما تتمتّع به الكلمة من تأثير عميق وعظيم في تشكيل الحياة وتفاصيلها وفلسفتها، وربّما بوسعنا أن نضيف مقولة أخرى تناظرها هي: (في البدء كان التعريف) كي نجعل البداية في الكلمة هي نفسها بداية في التعريف، لأنّ الكلمة إن لم تُعرّف جيداً ستؤدّي حتماً إلى تشويش في منطقة الاستقبال والتلقّي يقود إلى فهم خاطئ أحياناً ويمكن أن تنجم عنه كوارث كبيرة، وكثير من المرويات الحكائيّة في ثقافتنا العربيّة القديمة تنقل إلينا قصصاً عجيبة عن سوء الفهم الحاصل بين الكلمة وما تؤدّيه من معانٍ مُختلَفٍ عليها بحسب لغة كلّ قوم، فالتعريف هو أيسر السبل لتحقيق الفهم الكامل للكلام على نحوٍ لا يترك لبساً أو غموضاً أو سوءَ فهمٍ يؤدي إلى نتائج وخيمة عندما يكون الكلام حساساً ومثيراً ومقدّساً.