سأعترفُ لك يوماً
بحكاية قصيرة لن تفكّك غوامض معانيها التي تجول بمدى النسيان.
كان مدهشاً
أن أبصرك مثل "نسر برأسين"، الرأسان اللذان ضاق بانبعاثهما الرماد.
أسطورة كنتُ.. عصي المنال كلما أحرقتُ تذاكرك ودفاترك..
عدت من جديد.. أيها القريب جدا، البارد، الملتهب.. الملوّح لي في شتّى المفارق.
ربما.. لو توقفتُ، يوماً، لفاجأني نسر لاكتشفتُ تعويذته وهي تهبط مثل إله
أشوري في العواصف يشعُ على جميع الأسرار المدفونة بلامبالاتها خلف
هشاشة الكلام.. الكلام إذ تركنا قلوبنا في سماء راكدة، تكسوها
عيون مكلّلة بتيجان الدموع اللؤلؤية.
يمكن لامرأة، مثلي، أن تؤكد أن الحرب واقعة لامحالة، الحرب تلبسني
كما تتلّبس آلهة بالغضب.. الغضب الذي لم أعرفه قطُّ.
أيها.. العاشق الذي يجهش الاحتراق بملامحه كلما لوّح لي.
مثل "نسر برأسين" كانت قبلة في رسالة من فم (بريجيت باردو)، لكنّك
الآن في الثمانين إذ تعود الذكريات بمزيد من الكاميرات وبقليل
من جرة قلم وقعّ بطريقة مثيرة على ألبوم يعلّب الحسرات العتيقة.
ثمّة ما ينقصُ هذه الصور.. وكأنّها غير واضحة الإضاءة، ألوانها
التي تتلاشى بيننا.. حيث المدى المفعم بالرحيل المفعم بالوجوه.. بحجم
المسافات التي تتوالد من همس مكرر، وربما الوقائع الدامغة.. إذ تقرّر
الطبائع البشرية: لست حبيبي فقط، بل أنت متاح لكل الجميلات.
هكذا كبرنا، فجأة.. لكنك ما زلت تسكنهنّ، وهنّ يغسلن بناطيلهن في أيام الطمث.
في الحقيقة كانت أياديهن ثقيلة.. الخلل في رؤوسهن، كأنك كنت الدبيب
المتشنج في عضلات اليد، مضطرات لإبطاء حركتها، أو بتكرار غسل
البناطيل التي تسقط عند توقفها أحيانا.
غير أن تحطيم القلوب –كما تعرف- لا ندركه عادةً إلاّ بعد الإصابة بالسكتة القلبية.
ولا يعد هذا حزناً.. فبدلاً من أن نُعاتب ونترّقب التصالح، نعبر بأرواحنا ونصطدم
كالغاضبات بجدران حياة توشك أن تنهار.
ثمة اعترافات فاصلة بين ندمين، تذكّرك "أحبك ثمانين مرة" في رسالة (بريجيت باردو)
الرسالة التي تأخذك لأوقات منتزعة من كتاب الزمن، أوقات (ديلون وداليدا الشقراء)
حينما تجاورتما في فندق باريسي.
وأهمّ من الجوار، الحب الجارف بينكما وخشونة - الكلام.. الكلام- أغنيتها الحزينة.
أفكّرُ في الحول الذي في عينها، رغم كآبتها.. استمرارها في رؤية ما لا نراه.
أفكّرُ في انتحارها الذي تتهافتُ عليه الجميلات كعطر أخرس.. لعلَّهن يُخرجن
الخفافيش من رؤوسهن. تلك المرأة الغامضة لم تغني كُلّ أسرارها.
ليست خائبة، كما أظهرت لنا حكاية حبها لك.
ولا أعتقدُ أنّ اشتياقك سينفخ بروحها، يعيدها إلى ما كانت عليه: مُلهمة لدور الأزياء
العالمية، صوتها الذي يشبه الذكريات الباردة تلك التي برأسي الآن، وتلك
أفكارها المفكَّكة رغم ولعها بكتب الفلسفة.
ما عرفته عن الفلسفة لا يختلف عنما عرفته عن الحياة، الفلسفة حاسمة فقد تأخذك
أحياناً إلى ضفة الضعف الذي نخفيه في قلوب معاقة بحب ناقص.
قلوب النساء التي يقضمها الرجال بكثيرٍ من الأرق والخمول.. والتجاعيد.
التجاعيد لا تصدّق، أن العلّة بقلبك لا بعمرك، لهذا فهي لا تهتم لخدع البصيرة ولا لانعكاسات
المرايا التي تستقر أمام وجهك تماماً، كمن ترى نفسها كل يوم على شاشة تلفاز
وأنّها لا تشبهُها ابداً، وأنّها تعمدت أن تبدو هكذا، وكأنها موجودة فقط لتثبت أن حياتها
عاجزة، أيضا، عن أن تضيء كمنصات المسارح التي تصرخ بعرينا في عالم يحملقُ في المنتحرات
لاحقاً، بالعاشقات المنسيات، بما تبقّى من عيون مبتسمة انمسختْ من أجسادهن بفعل قتلة القلوب.
كلّ شيء هُنا يشبهنا رسائل (بريجيت) لك، ظلال المشاهد، القلوب الخادعة.
إذ كان لابدّ من سنوات مهملة، أنا وكآبة (داليدا) والانتحارات التي تكنس بشغفها حياتنا
كحُبّ، كزير نساء يجرح الجميلات، وملامح تطرحني معانيها: كلام.. كلام فقط، أنت..
أنت الذي متى بدأ، لن يتوقف.. مطلقا.