الوجود في شارع الرشيد

ثقافة 2019/07/15
...

ياسين النصير
 
 كنتُ قد أيقنتُ من زمن بعيد، أن وجود الشارع المنظم في بلد، يعني ثمة سياسة منظمة، وكتبت عن ذلك كتابي “شارع الرشيد عين المدينة وناظم النص”، فكنت أعني بان الشارع ينظم نص المدينة بكل ما يعنيه نصها، من تجارة، وصناعة، ومجتمع، وثقافة، وعلم، ونقد، وعمارة، وأزياء، وثقافة، وعربات،...الخ. فالشارع شرعة الذين يحكمون، والقدرة على بلورة رؤية للمستقبل، وعندما يضيء الشارع بما يحتويه تجد المدينة متحركة والحياة منفتحة، وثمة موسيقى كونية تصاحب كل عامل، أما عندما ينطفئ ضوء الشارع، تتسرّب إليه القنافذ، والقطط، والكلاب السائبة، والجرذان، وهم يتوزعون مناطقه، ويبنون مدنهم في جحور، ويتقاسمون غنائمه، فيبيعون ويشترون فيما بينهم، ذمما وعقارات، وأبنية وبضاعة، وتجدهم ليلا ونهارا، في حالة قضم وهضم واستيلاء، وإذا ما اختلَّ ميزان قطاع من قطاعات المالكين الجدد، هجمت عليه بقية القطاعات، واستولت الجرذان على حقول الكلاب، واستولت الكلاب المنسحبة على حقول القطط، واستولت القطط على حقول الفئران، واستولت الفئران على بقايا القدور الفارغة.. وهكذا يعاد تقسيم الشارع بين ممالك حقيقية وأخرى وهمية، فتجد على ارصفتها بقايا النزاعات الليلية. 
يعني الشارع في المدينة، أنه إنسان المدينة، مكان يفكر بالحداثة، ويجلب لك ما تريد، ويقدم لك صورة عن العالم، ويتباهى مع غيره بما يقدمه من بضاعة.، “إن الإنسان الحديث الأنموذجي تخلقه المدينة، هو ذلك الإنسان الذي يصارع وحيدًا حشودًا من الكتل والطاقة، حشودًا ثقيلة، سريعة ومميتة”. ومن يعايش شارع الرشيد اليوم، يجد هذه الحشود وقد أطفأت بريق وأضواء الشارع، واستبدلت حياته بموت البضاعة وفسادها، بعتمة الليل بديلا عن ضوء النهار، بالكساد بدلا من العمل، فحركة المرور التي لا تعرف التوقف، اصبحت حركة سلاحف صفراء سرعان ما تعطل محركاتها، حياة سوداء ملفعة بعتمة لا تعرف لها بداية او نهاية، تفرض ايقاعها على زمن الجميع، وتحيل البيئة كلها إلى فوضى منظمة، كما يقول مارشال بيرمان. فالشارع في المدينة يحمل هويتها، ويعلن عن ميلادها وموتها. شارع الرشيد هو ذلك الكائن الذي كان يضخ الدماء لكل مدن العراق، يصبح الآن جسدا مقطعا على سرير عربة متنقلة، فتجده موزعا بين مراكز بغداد بالبضاعة المغشوشة نفسها، وكان مرض شارع الرشيد أصبح هو الانموذج لشوارع متفرعة عنه. مقطع الشرايين، تتوزع أرصفته فئات لاتعرف غير الاستغلال وبيع البضائع المغشوشة، فالمدينة وليد شوارعها، نظامها.. من انتظام شارعها، وحياتها من الدماء الحية التي تغذي شرايين المدينة. ليس لدينا مدونة عن ثقافة الأمكنة، ففي أمكنة كشارع الرشيد، كتبت معظم الروايات والقصائد، ونضجت الافكار السياسية والاجتماعية، وعقدت صفقات كثيرة للحب، وتعارفت الناس والمدن بعضها على بعض، وتنوعت حيواتنا بما يفيد تقدمنا وتأخرنا، وكلما مررنا يومذاك وجدنا تغييرًا، وجدنا فسحة للحوار، تجاذبا للآراء، أما اليوم فالمرور فيه يعني الإلتفات إلى الوراء مرات، خشية ان تكون قد اخطات المسير.
إن حياة المدينة الحديثة تفرض شارعًا حديثًا، وعندما تنظر لشارع الرشيد، وتراه ميتًا إلا من نفس قديم ما زال يجري في شرايينه المتهالكة، تشعر أن بغداد مدينة ليست حديثة، إن من يملك حياة ويوظفها لصالح الناس عليه أن يبدأ بتحديث شارع المدينة، وإلا فكل كلام عن الحداثة فراغ.