جازف الكثير من الكتّاب على مرّ التاريخ بالاشتغال على موضوعات كانوا يُدركون أنّها تخرق الخطوط الحمر التي وضعتها السلطة السياسية أو الدينية أو المجتمع، وهو ما أدى إما إلى تمزيق كتبهم وأعمالهم الفنية، أو حرقها، بل وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى القتل والتنكيل بهم، حتى ضاعت أسماء بعضهم ولم يعد لهم ذكر.
غير أنَّ الكثير من هؤلاء لم يعبأ بما سيحصل له، وكان هدفه الرئيس نشر ما يريد حتى وإن وصل الأمر إلى القتل الذي كان يتوقّعه، فهل ما زالت هذه المجازفة قائمة حتى الآن؟ وهل هنالك كتّاب يقدّمون حياتهم مقابل نصٍّ ما؟
وربما يمكننا طرح التساؤل بصيغة أخرى: ما العمل الذي لم تستطع كتابته رغم أنّك قادر عليه؟ وما أسباب عدم انجازه إن كانت رقابية أم اجتماعية أم دينية؟
علاقة حب
الدكتور علي عبد الأمير صالح يشير إلى أنه مع وجود علاقة حبّ جارفة تربطه بالكتب التي يدوّنها إلا "أنني غالباً ما أجد سبباً قاهراً يمنعني من كتابتها أو تسجيلها على الورق، وهو أن السلطات السياسية والدينية تضيّق عليّ حرية التعبير وتحرمني من حقّي المشروع في التعبير عن آرائي وطموحاتي، فأنا لا أريد أن أضطر إلى أن أشطب وأشطب وأشطب ليتحوّل نصي السردي إلى كتابة هزيلة، سطحية، لا تهز وجدان قرّائي ولا تصدم أفق توقعهم، ولا تدفعهم إلى تغيير قناعاتهم ومسلّماتهم، ولا تُشبع فضولهم الفكري والمعرفي والجمالي"، ويؤكّد صالح توقفه عن كتابة أكثر من عمل سردي لأنه أحس بعدم قدرته على جعل المتلقي يصرخ، أو يثور، و"أنني غير قادر على أن أجعله يحب الحياة بقوة، ويسخر من الموت ويطرح الأسئلة".
ملامسة المقدّس
في حين فكّر الروائي سعد سعيد، وبدأ بالاستعدادات الذهنية لتخيّل الحكاية اللازمة للرواية التي شاء من خلالها إلقاء الضوء على حقيقة ما حدث للمجتمع العراقي منذ عقود طويلة، ومحاولة تحليل الشخصية العراقية وربطها بتاريخها الممتد منذ قرون، اعتماداً على حقائق وأحداث تاريخية متّفق عليها، "لكن تداعياتي الفكرية قادتني إلى نتائج عرفت منها بأنني لربما سأسيء إلى مشاعر الناس حين ألامس مقدّساتهم التي يؤمنون بها، والتي هي في الوقت نفسه جزء من مشكلة هذا المجتمع الذي وصل إلى درك سيحتاج إلى وقت طويل ليخرج منه، فآثرت السلامة وقرّرت العودة إلى نهجي الذي أسير عليه"، فالرواية- من وجهة نظر سعيد- عالم كامل ولا داعي لتعريض النفس إلى الخطر بلا داع، فلا فائدة من ازالة الرقيب الرسمي الفكري ما دام الشرطي المجتمعي حاضراً ومستعداً لإنزال العقاب بالكاتب الذي يريد أن يتجاوزه.
مكتبة مكنزي
ويكشف الروائي عبد الله صخي أنّ الأمكنة وشخصياتها ما تزال تشغله. إنها تضغط عليه بحنين جارف في زمن تبدّل فيه كل شيء تقريباً. لكن آثاراً وذكريات لها تنبثق أمامه كلما جاورها أو اقترب منها أو استدعاها. "خذ مثلا بارك السعدون. ستتوقّف سيارة الأجرة التي أقلتني من ساحة الطيران، عبر شارع النضال، عند مكتبة مكنزي. وهي الفرع الثاني للمكتبة الإنكليزية في شارع الرشيد. سأعبر الشارع باتجاه البارك. إنّه متنزه كبير ساحر يمتلئ بالطلبة الدارسين حين تقترب الامتحانات، ويمتلئ بالعوائل والعشّاق ساعات المساء في الصيف. كان ذلك في فترة الخمسينيات وأوائل الستينيات لكنه اختفى عام 1968 إذ هدمته السلطة وأقامت على أنقاضه مديرية الأمن العامة". ويضيف صخي: أحاول أن أروي الوقائع السياسية والاجتماعية والعاطفية والتبدّلات التي طرأت عليها، لكن ذلك يتطلّب مني إقامة في العراق لزيارة تلك الأماكن وتوثيقها أدبياً وهو أمر ليس
سهلاً عليَّ تنفيذه الآن.
المسكوت عنه
فيما لا يرى الروائي ضياء الخالدي أنّ هناك موانع من كتابة أي موضوع لأنّه يؤمن بقدرة الفن الروائي على تطويع أيّة فكرة ضمن بنية خاصّة به، فالرواية لا تتعمّد الصِّدام بشكل مباشر مع الموانع كالصحافة مثلاً لأنّها تُكتب لتبقى وتؤثر تراكمياً. الرواية خيال يحفز الذهن لإعادة النظر إلى المسكوت عنه ونزع قشرته المتكلّسة بطريقة هادئة لا تستفز أحداً، إنها مدفوعة لملاحقة الأصل الذي شيّد سياجات دوغمائية سُجناً بداخلها، وأي انفعال لن يُمكننا من تقويضها مهما كانت النيات والدوافع. الرواية كباقي الفنون لها الإمكانية على مخاطبة ما في أعماقنا وتنشيط المهمل، وما لا نستطيع الإشهار به، وتنميته حتى يصبح جزءاً رئيساً من وجهة نظر متمدنة نتحرّك من خلالها إزاء العالم".
قصة حياتي
أما القاص والروائي كريم صبح فلديه رغبة شديدة في كتابة قصة حياته في رواية، "لدي القدرة على ذلك، وما زالت ذاكرتي متّقدة بالكثير من تفاصيل الحياة تلك.. المشكلة أنّ تلك التفاصيل تحتاج إلى تجرّد من الذاتية، وإلى كثير من الصراحة، لأنّ فيها الكثير من الأسرار ربما الصادمة على الصعيد الاجتماعي". ويضيف صبح أن القيد الاجتماعي يمنعني من الكشف عنها في الوقت الحاضر، وقد يقول قائل: يمكنك أن تكتب قصة حياتك بشيء من التعديل في الأسماء الحقيقية للأشخاص والأماكن، واستخدام الترميز. ذلك ممكن بالطبع، وينطبق على أسماء الأشخاص، لكن غير ممكن بالنسبة إلى المكان، لأن فيه خصوصية اجتماعية فريدة لا توجد في أماكن أخرى، وهذا أحد عوامل قوة الرواية لو كتبت، كما أنه، في الوقت نفسه، أحد قيود كتابتها.. إن زال هذا القيد مستقبلاً، سأنجز الرواية التي أتوق إلى كتابتها منذ زمن طويل..
الهجرة
فيما يشير الكاتب المسرحي سعد هدّابي إلى أن العائق الأول في عجلة الإنتاج هو السقف الإنتاجي.. نحن نكتب بتقشف رهيب، ومقيدون بخارطة إنتاج يفرضها الظرف الاقتصادي. نحلم كثيراً في أن نكتب بحرية مطلقة لعمل فيه سياحة بصرية، فيه تنوّع على مستوى المكان.
و"من الأعمال التي أحلم في إنجازها كتابياً هي الهجرة وما رافقها من أهوال في المحيطات وكيف يغرق المهاجرون وهم يتعرضون إلى ابشع المساومات من قبل مفردة اسمها (الدليل)، والكشف عن الجانب المعتم الذي رافق هذه الهجرات، وسرقة الأعضاء البشرية وما إلى ذلك من ملفات مفزعة لم يطلع عليها الرأي العام ولا منظمات حقوق الإنسان، فـ "نحن مرهونون بعجلة إنتاج
عرجاء".