خطاب القصيدة عند شمس الدين

ثقافة 2019/07/16
...

بشير حاجم
إذ أريد خطابا للقصيدة، هنا، فإنّما أقصد به ذلك الأدبيّ، الابداعي، الذي يجب، له أو عليه، أن يخلق لغة داخل اللغة. هكذا سيبدو الخطاب بنية، سابقيّاً، بينما ستغدو البنية خطابا، لاحقيّاً، حين يحدث تجاوزها للجزئيات بالعلائقيات: للمضمون بالشكل. ثم أن هذا التجاوز، الذي لا بدّ منه، يقود بالضرورة إلى الغاية الثيمية.
ففيها، الآن، ثمة تفريق ما بين فكرة وثيمة: الأولى، بوصفها أساسية، ظاهرة تتعلّق بمفردات اللغة، أية لغة، جليّة، غير خفيّة، لأنّها كلّ عنصر لغوي متكرر باستمرار في آثار الناص - الثانية، بصفتها إجمالية، لا تشكّل ظاهرة لغوية سوى بصورة ثانوية، فقط، خفيّة، غير جليّة، إذ تظهر على هيأة شكل «تعبيري ـ رمزي» في أثر النص.
إذاً، بهذا التفريق، يمكن التأكيد ثمّ الاستدراك الآتيان: إن الفكرة، الجلية، تتوسّل التخاطب، ذا الصفة المضمونية العامة، مستغلة انشغال العوام به – لكن الثيمة، الخفية، تتغيّا الخطاب، ذا السمة الشكلية الخاصة، مستثمرة اشتغال الخواص له.
لذلك، قبالة: العمومية التخاطبية الانشغالية – الخصوصية الخطابية الاشتغالية، فإنّ: أيّةَ فكرةِ مقاوَمةٍ، في الشعر، لا تصمد طويلا، أمام التلقّي، حيث تقريريتها المباشرة .. بعكسها، على مستوى الصمود الطويل، أيّةُ ثيمةٍ مقاوِمةٍ.
كما في شعر اللبناني: محمد علي شمس الدين، مثلاً، إذ في مجمل دواوينه، منذ: قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا ـ 1974، قد بثَّها مداورةً و مناورةً: عربات يهوذا/ تنزل من صوب التوراة/ وتجرف آخر أطفالي/ ستمرُّ على صدري/ أقدام الجند/ وأحذية البدو الرحل/ ويباع ردائي « من: منازل النرد ـ 1999».
حتى وهي متجلّية، في بعض الأحيان، كأنّها متخفّية، تماما، حيث من نماذجها الأهم، تجلّياً = تخفّياً، تقنُّعٌ لـ شمس الدين – في: شيرازيّات ـ 2005 – بـ حافظ الشيرازي الذي: كتب أشعاره الرقيقة في الحب والعرفانية، في زمن وحشية التتار والمغول وزحفهم الكاسح على العالم الإسلامي - وهو في أيامنا هذه، وبعد مرور سبعة قرون على ولادته، حاضر، وواجب الحضور إسلاميا في مواجهة التترية المعاصرة المتمثلة بالوجه البشع للثقافة الأميركية ـ الصهيونية.
يضاف إليه: البسطامي/ الرومي/ السهروردي/ الشبلي... وأمثالهم، ممن «قوتهم الروحية موجودة في أحوالهم»، فضلا عن ثنائية «الحسين – زينب»: كتبت أموراً خطيرة حول الشجن الكربلائي، لأني مجّدته وهو منتصر فقط، وامتزج بدمي في شتى الأحوال.
إلّا أنّه فرح له، برغم ذلك، كما يقول في قصيدة «ورشة القتلة»: إن سبعين ألفاً من النجم تهوي/ لتلمس هذا الدم المستحيل/ فاجرحوني/ أنا ذبيحتكم/ في الزمان القتيل «من: طيور إلى الشمس المرة ـ 1984».
هنالك قصائد أخرى ذات ثيماتٍ مقاوِمةٍ: متجلّية = متخفّية، إجمالاً، بحسب هذه المقتطفات: كان شتاء/ والبرد القارسُ ناب أزرق/ وكلاب الحرب على الطرقات/ وكان الطفل يخاف الوحشين/ الناب الأزرق والإنسان» من: أما آن للرقص أن ينتهي ـ 1988» – رأيتك محفوفا بالغزلان/ ودمعك يجري/ كالياقوت على صدرك/ ورأيت على مئذنتين بهاك/ فهمت على وجهي» من: أميرال الطيور ـ 1992» - في طريق الإمام الذبيح/ سجلوا في دفاتركم ما يلي:/ لقد أزف الوقت/ واكتملت كربلاء/ مثلما شاءها الأقوياء» من: الغيوم التي في الضواحي ـ 2007» - كثيرة هي المراكب التي/ أتت تزور كعبتي/ ولم تعد/ فلن أكون غير واحد/ ولن تكون غير ثاني اثنين» من: النازلون على الريح ـ 2013».
كلُّ هذه القصائد، وأمثالها، تقود للبحث عن فلسفة الشعر عند شمس الدين: للشعر صلة مؤكدة باللغة وخطورته تكمن أكثر في إثارة الخيال. ثم تأتي منه، حتما، هذه الثلاثية للمقاومة: ثلاثة مستويات من معناها: الإقامة في الأرض - الهجرة من المكان للعودة إليه - الإقامة في اللغة. لذا، بحسب: إقاميّة الأرض واللغة – مكانيّة الهجرة والعودة، فإنّ: قصيدة المقاومة ليست مثل المقاومة. ذلك، تبريرا «و/أو» تعليلا، لأن الشعر، بمفارقته للواقع، هو في النتيجة لغة، لها: أقنعة ـ غموض ـ حيل ـ تقنيات، تفرض علينا التدقيق في قول باتٍّ كهذا: إنّه شعرٌ مقاوم.
من هنا، حيث.. قبل كلّ شيء يجب أن نسأل: هل هو شعر؟، تتمظهر أسئلة شمس الدين عن الشعر المقاوم: هل يبتكر؟ هل يحوِّر؟ هل ينشد؟ كما أنّه، بهذا التمظهر، يتساءل أيضا: هل يعكس شرطا من شروط الحياة ذات الصلة به؟ لذلك، أخيرا، فهو ليس مقاوما للموت بالحياة، أبداً، ولا للكره بالحب أو للباطل بالحق أو للشر بالخير.. بل يقاوم الموت، أولا، وكذا الكره والباطل والشر، إلخ...، بالشعر وجمالياته التي من أهمّها جمالية الثيمة المقاوِمة.